يَمُدُّونَ أَعْنَاقَهُمْ وَتَتُوقُ أَنْفُسُهُمْ إلَيْهِ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ شَرِبَ فَشَرِبَ النَّاسُ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ) .
ــ
[نيل الأوطار]
[بَابُ مَنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ]
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَ نَحْوَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ وَالنَّاسُ صَائِمٌ وَمُفْطِرٌ؛ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَمَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ النَّاسُ» وَسَيَأْتِي وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا ". وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْضَحَ مِنْ سِيَاقِ خَالِدٍ، وَلَفْظُهُ: «فَلَمَّا بَلَغَ الْكَدِيدَ بَلَغَهُ أَنَّ النَّاسَ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ شَرِبَ فَأَفْطَرَ فَنَاوَلَهُ رَجُلًا إلَى جَنْبِهِ فَشَرِبَ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَشْهَدهُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ قَوْلُهُ: (كُرَاعَ الْغَمِيمِ) هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْغَمِيمُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ اسْمُ وَادٍ أَمَامَ عُسْفَانَ وَهُوَ مِنْ أَمْوَالِ أَعَالِي الْمَدِينَةِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ، فَأَمَّا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ النَّهَارِ؟ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بِالْجَوَازِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ كُرَاعَ الْغَمِيمِ مِنْ أَمْوَالِ أَعَالِي الْمَدِينَةِ، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْبَابِ بَعْدَ هَذَا " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْطَرَ حِينَ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَرُدُّ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ مَنْ اسْتَهَلَّ رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَحْوُ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُ مِنْ الْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] قَوْلُهُ: (فَشَرِبَ. . . إلَخْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الْفِطْرِ لَا تَخْتَصُّ بِمَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ أَوْ خَشِيَ الْعُجْبَ وَالرِّيَاءَ أَوْ ظَنَّ بِهِ الرَّغْبَةَ عَنْ الرُّخْصَةِ بَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ لِيُتَابِعَهُ مَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَيَكُونُ الْفِطْرُ فِي تِلْكَ الْحَالِ فِي حَقِّهِ أَفْضَلَ لِفَضِيلَةِ الْبَيَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: " وَمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ " قَوْلُهُ: (أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ مُتَحَتِّمٌ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (فِي يَوْمٍ صَائِفٍ) فِيهِ أَنَّ الْإِفْطَارَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ كَمَا يَكُونُ فِي أَيَّامِ الصَّيْفِ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ وَأَنَّهُ يُشْرَعُ لِمَنْ مَعَ الْمُسَافِرِينَ مِنْ إمَامٍ أَوْ عَالِمٍ أَنْ يُفْطِرَ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى الْإِفْطَارِ لِمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: (إنِّي أَيْسَرُكُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute