لَكُمْ، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا، فَكَانَتْ عَزْمَةٌ فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتَنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد) .
ــ
[نيل الأوطار]
[أَبْوَابُ مَا يُبِيحُ الْفِطْرَ وَأَحْكَامِ الْقَضَاءِ] [بَابُ الْفِطْرِ وَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ]
قَوْلُهُ: (أَأَصُومُ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ. قَالَ الْحَافِظُ: هُوَ كَمَا قَالَ بِالنِّسْبَةِ إلَى سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ صِيَامِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا تُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ مَا هُوَ وَاجِبٌ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي صَاحِبُ ظَهْرٍ أُعَالِجُهُ أُسَافِرُ عَلَيْهِ وَأَكْرِيهِ، رُبَّمَا صَادَفَنِي هَذَا الشَّهْرُ يَعْنِي رَمَضَانَ وَأَنَا أَجِدُ الْقُوَّةَ وَأَجِدُ لِي أَنَّ الصَّوْمَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَخِّرَهُ فَيَكُونَ دِينًا، فَقَالَ: أَيُّ ذَلِكَ شِئْتَ» .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةُ اسْتِوَاءِ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ قَوْلُهُ: (فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ " خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ " وَبِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ يُتِمُّ الْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَيَتَوَجَّهُ بِهَا الرَّدُّ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا السَّفَرَ هُوَ غَزْوَةُ الْفَتْحِ وَهُوَ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ ذَكَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ صَائِمًا فِي هَذَا السَّفَرِ، وَهُوَ اُسْتُشْهِدَ بِمُؤْتَةِ قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَيْضًا الَّذِينَ صَامُوا فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الصَّوْمُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فِي سَفَرٍ) فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهَا غَزْوَةُ الْفَتْحِ قَوْلُهُ: (وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ) زَعَمَ مُغَلَّطَايَ أَنَّهُ أَبُو إسْرَائِيلَ وَعَزَا ذَلِكَ إلَى مُبْهَمَاتِ الْخَطِيبِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ فِي قِصَّةِ الَّذِي نَذْرَ أَنْ يَصُومَ وَيَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَالَ الْحَافِظُ: لَمْ نَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ قَوْلُهُ: (لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ. . . إلَخْ) قَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْمَشَقَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِلرَّجُلِ الَّذِي ظُلِّلَ عَلَيْهِ.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ لَيْسَ بِفَضِيلَةٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَعْنِي صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ عَنْ الْفَرْضِ، بَلْ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ فِي الْحَضَرِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَاوُد وَالْإِمَامِيَّةِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَغَيْرِهِمْ انْتَهَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute