. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[نيل الأوطار]
الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الَّذِي بَعْدَهُ قَوْلُهُ: (فَنَسَخَتْهَا) قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ مِنْ النَّسْخِ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ مُعَلَّقًا وَمَوْصُولًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَالْبَيْهَقِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَا عَهْدَ لَهُمْ بِالصِّيَامِ، فَكَانُوا يَصُومُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَتَّى نَزَلَ رَمَضَانُ فَاسْتَكْثَرُوا ذَلِكَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ يُطْعِمُ مِسْكِينًا كُلَّ يَوْمٍ تَرَكَ الصِّيَامَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ رَخَّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] ، فَأُمِرُوا بِالصِّيَامِ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَالْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْأَعْمَشِ مُطَوَّلًا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِفْطَارَ وَالْإِطْعَامَ كَانَ رُخْصَةً ثُمَّ نُسِخَ لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ الصِّيَامُ حَتْمًا وَاجِبًا فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] وَالْخَيْرِيَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: خَيْرٌ لَكُمْ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي أَصْلِ الْخَيْرِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْكَرْمَانِيُّ جَوَابًا مُتَكَلَّفًا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الصَّوْمَ خَيْرٌ مِنْ التَّطَوُّعِ بِالْفِدْيَةِ وَالتَّطَوُّعُ بِهَا كَانَ سُنَّةً وَالْخَيْرُ مِنْ السُّنَّةِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا: أَيْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ السُّنَّةِ إلَّا الْوَاجِبُ، كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَتَكَلُّفُهُ، فَالْأَوْلَى مَا رُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّاسِخَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] وَإِلَى النَّسْخِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْكَبِيرِ مِمَّنْ يُطِيقُ الصِّيَامَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، قَالُوا: وَحُكْمُ الْإِطْعَامِ بَاقٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَطُقْ الصِّيَامَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد أَنَّ جَمِيعَ الْإِطْعَامِ مَنْسُوخٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْكَبِيرِ إذَا لَمْ يُطِقْ طَعَامٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ الرُّخْصَةُ لِكَبِيرٍ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ نُسِخَ فِيهِ وَبَقِيَ فِيمَنْ لَا يُطِيقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَكِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالشَّيْخِ الْكَبِيرِ كَمَا وَقَعَ فِي الْبَابِ عَنْهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ نَزَلَتْ فِي الْمَرِيضِ يُفْطِرُ ثُمَّ يَبْرَأُ فَلَا يَقْضِي حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ فَلْيَلْزَمْهُ صَوْمُهُ ثُمَّ يَقْضِي بَعْدَهُ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، فَإِنْ اتَّصَلَ مَرَضُهُ بِرَمَضَانَ ثَانٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إطْعَامٌ، بَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: الضَّمِيرُ فِي " يُطِيقُونَهُ " عَائِدٌ عَلَى الْإِطْعَامِ لَا عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: ١٨٤] هَكَذَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ آخِرَ الْكَلَامِ: هِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَصْلُ وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ: أَيْ يُكَلَّفُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِآخِرِ الْكَلَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنْ. يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute