بَابُ التَّسْمِيَةِ لِلْوُضُوءِ
ــ
[نيل الأوطار]
إذَا عَمِلَهُ بِشَرَائِطِهِ أَوْ حَالَ دُونَ عَمَلِهِ لَهُ مَا يُعْذَرُ شَرْعًا بِعَدَمِ عَمَلِهِ وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْحُصُولِ إذَا لَمْ تَقَعْ النِّيَّةُ لَا خُصُوصًا وَلَا عُمُومًا أَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا مَخْصُوصًا لَكِنْ كَانَتْ هُنَاكَ نِيَّةٌ تَشْمَلُهُ فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا لَا يُحْصَى. قَوْلُهُ: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
الْهِجْرَةُ: التَّرْكُ، وَالْهِجْرَةُ إلَى الشَّيْءِ: الِانْتِقَالُ إلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَفِي الشَّرْعُ: تَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى وُجُوهٍ: الْهِجْرَةُ إلَى الْحَبَشَةِ. وَالْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَهِجْرَةُ الْقَبَائِلِ. وَهِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَهِجْرَةُ مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِدَارِ الْكُفْرِ. وَالْهِجْرَةُ إلَى الشَّامِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «سَيَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمَهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا» وَرَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ.
قَوْلُهُ: (فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وَقَعَ الِاتِّحَادُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَتَغَايُرُهُمَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُفِيدًا. وَأُجِيبُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ نِيَّةً وَقَصْدًا فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ حُكْمًا وَشَرْعًا فَلَا اتِّحَادَ، وَقِيلَ يَجُوزُ الِاتِّحَادُ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ أَوْ التَّحْقِيرِ كَأَنْتَ أَنْتَ: أَيْ الْعَظِيمُ أَوْ الْحَقِيرُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:
وَشِعْرِي شِعْرِي
أَيْ الْعَظِيمُ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا، أَيْ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَحْمُودَةٌ، أَوْ مُثَابٌ عَلَيْهَا، وَفَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ مَذْمُومَةٌ أَوْ قَبِيحَةٌ أَوْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.
قَوْلُهُ: (دُنْيَا يُصِيبُهَا) بِضَمِّ الدَّالِ وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ كَسْرَهَا وَهِيَ فُعْلَى مِنْ الدُّنُوِّ أَيْ الْقُرْبِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَبْقِهَا لِلْأُخْرَى. وَقِيلَ: لِدُنُوِّهَا إلَى الزَّوَالِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهَا فَقِيلَ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْهَوَاءِ وَالْجَوِّ. وَقِيلَ: كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْجَوْهَرِ وَالْأَعْرَاضِ. وَإِطْلَاقُ الدُّنْيَا عَلَى بَعْضِهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ مَجَازٌ.
قَوْلُهُ: (أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا) إنَّمَا خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَعُمُّهَا وَغَيْرُهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ لَفْظَ دُنْيَا نَكِرَةٌ وَهِيَ لَا تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُ الْمَرْأَةِ فِيهَا وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ. وَنُكْتَةُ الِاهْتِمَامِ الزِّيَادَةُ فِي التَّحْذِيرِ لِأَنَّ الِافْتِتَانَ بِهَا أَشَدُّ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ ابْنِ سِرَاجٍ أَنَّ السَّبَبَ فِي تَخْصِيصِ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يُزَوِّجُونَ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ وَيُرَاعُونَ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَوَّى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مُنَاكَحَتِهِمْ فَهَاجَرَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَزَوَّجَ بِهَا مَنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَيْهَا. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ يُفْتَقَرُ إلَى نَقْلٍ أَنَّ هَذَا الْمُهَاجِرَ كَانَ مَوْلًى وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ عَرَبِيَّةً. وَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ عَادَةُ الْعَرَبِ ذَلِكَ وَمَنَعَ أَيْضًا أَنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ الْكَفَاءَةَ وَلَوْ قِيلَ: إنَّ تَخْصِيصَ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْحَدِيثِ مُهَاجَرُ أُمِّ قَيْسٍ فَذُكِرَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَشْمَلُهَا لَمَّا كَانَتْ هِجْرَةُ ذَلِكَ الْمُهَاجِرِ لِأَجْلِهَا، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا مِنْ الصَّوَابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute