للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

يُدْفَنُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا تُرَابُهُ عِنْدَمَا يُخْلَقُ كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَمْهِيدِهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءَ الْخُرَاسَانِيِّ مَوْقُوفًا وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْبُقْعَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَنَصْبُهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ غَيْرُ لَائِقٍ عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ التُّرَابَ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تُرَابِ الْكَعْبَةِ فَالْبُقْعَةُ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا مِنْ بِقَاعِ مَكَّةَ وَهَذَا لَا يَقْصُرُ عَنْ الصَّلَاحِيَّةِ لِمُعَارَضَةِ ذَلِكَ الْمَوْقُوفِ لَا سِيَّمَا وَفِي إسْنَادِهِ عَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ، نَعَمْ إنْ صَحَّ الِاتِّفَاقُ الَّذِي حَكَاهُ عِيَاضٌ كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا حَدِيثُ «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَهَذَا أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْتَهِضُ لِمُعَارَضَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمُصَرِّحِ بِالْأَفْضَلِيَّةِ هُوَ أَخَصُّ مِنْ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِخُصُوصِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ فَاضِلٌ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ.

وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: إنَّهَا مِنْ الْجَنَّةِ، مَجَازٌ إذْ لَوْ كَانَتْ حَقِيقَةً لَكَانَتْ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ الْجَنَّةَ {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: ١١٨] وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تُؤَدِّي إلَى الْجَنَّةِ كَمَا يُقَالُ فِي الْيَوْمِ الطَّيِّبِ: هَذَا مِنْ أَيَّامِ الْجَنَّةِ وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» قَالَ: ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا كَانَ الْفَضْلُ إلَّا لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ خَاصَّةً فَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَا قَرُبَ مِنْهَا أَفْضَلُ مِمَّا بَعُدَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْجُحْفَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ وَلَا قَائِلَ بِهِ.

وَمِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَفْضَلِيَّةِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ حَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَابْنِ زَنْجُوَيْهِ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالطَّحَاوِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي بِمِائَةِ صَلَاةٍ» وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْمَسْجِدِ لِأَفْضَلِيَّةِ الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ حَدِيثُ «اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِلَادِ إلَيْكَ» أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَيُجَابُ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْأَفْضَلِ لَا فِيمَا هُوَ أَحَبُّ وَالْمَحَبَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَفْضَلِيَّةَ وَالِاسْتِنْبَاطُ لَا يُقَاوِمُ النَّصَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِبَيَانِ الْفَاضِلِ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ كَالِاشْتِغَالِ بِبَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكُلُّ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ غَيْرَ الْجِدَالِ وَالْخِصَامِ وَقَدْ أَفْضَى النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ إلَى فِتَنٍ، وَتَلْفِيقِ حُجَجٍ وَاهِيَةٍ كَاسْتِدْلَالِ الْمُهَلَّبِ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>