كِتَابُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ
ــ
[نيل الأوطار]
بِاَللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَفِ
قَوْلُهُ: (بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ) خَصَّ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَقْصُودٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد «وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرَهُ» وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْفِعْلِ وَأَخَصُّ مِنْهُ فِي الْمَفْعُولِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ: اعْتِبَادُ الْحُرِّ يَقَعُ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يُعْتِقَهُ ثُمَّ يَكْتُمَ ذَلِكَ أَوْ يَجْحَدَهُ، وَالثَّانِي أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ كَرْهًا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْأَوَّلُ أَشَدُّهُمَا قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعَ كَتْمِ الْفِعْلِ أَوْ جَحْدِهِ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ مِنْ الْبَيْعِ وَأَكْلِ الثَّمَنِ فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ أَشَدَّ قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَإِنَّمَا كَانَ إثْمُهُ شَدِيدًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْفَاءٌ بِالْحُرِّيَّةِ، فَمَنْ بَاعَ حُرًّا فَقَدْ مَنَعَهُ التَّصَرُّفَ فِيمَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ وَأَلْزَمَهُ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْحُرُّ عَبْدُ اللَّهِ فَمَنْ جَنَى عَلَيْهِ فَخَصْمُهُ سَيِّدُهُ
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ مَنْ بَاعَ حُرًّا أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، يَعْنِي: إذَا لَمْ يَسْرِقْهُ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُ مَنْ بَاعَ حُرًّا قَالَ: وَكَانَ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْحُرِّ خِلَافٌ قَدِيمٌ ثُمَّ ارْتَفَعَ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ فَهُوَ عَبْدٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: " أَنَّ رَجُلًا بَاعَ نَفْسَهُ فَقَضَى عُمَرُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ وَجَعَلَ ثَمَنَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " مِنْ طَرِيقِ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَحَدِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ بَاعَ حُرًّا فِي دَيْنٍ
وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا يُثْبِتُهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْمَنْعِ قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ) هُوَ فِي مَعْنَى مَنْ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَأَنَّهُ أَكَلَهَا، وَلِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ فَكَأَنَّهُ اسْتَعْبَدَهُ قَوْلُهُ: (إنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إذَا قَضَى عَمَلَهُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ فَعِنْدَ الْعِتْرَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ فَتَتْبَعُهَا أَحْكَامُ الْمِلْكِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وَهَذَا فِي الصَّحِيحَةِ وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ فَقَالَ فِي الْبَحْرِ: لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ إجْمَاعًا، وَتَجِبُ بِالِاسْتِيفَاءِ إجْمَاعًا قَوْلُهُ: (فَهُوَ ضَامِنٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُتَعَاطِيَ الطِّبِّ يَضْمَنُ لِمَا حَصَلَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ عِلَاجِهِ وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ طَبِيبٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْ يَعْرِفُ الْعِلَّةَ وَدَوَاءَهَا وَلَهُ مَشَايِخُ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ شَهِدُوا لَهُ بِالْحِذْقِ فِيهَا وَأَجَازُوا لَهُ الْمُبَاشَرَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute