للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

فَحَاشَاهُ أَنْ يَنْسَخَ سُنَّةً ثَابِتَةً بِمَحْضِ رَأْيِهِ، وَحَاشَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجِيبُوهُ إلَى ذَلِكَ. وَمِنْ الْأَجْوِبَةِ دَعْوَى الِاضْطِرَابِ كَمَا زَعَمَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ، وَهُوَ زَعْمٌ فَاسِدٌ لَا وَجْهَ لَهُ. وَمِنْهَا مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى الْإِجْمَاعِ؟ وَيُقَالُ: أَيْنَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي جَعَلْته مُعَارِضًا لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ

وَمِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَبْلُغُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يُقَرِّرَهُ، وَالْحُجَّةُ إنَّمَا هِيَ فِي ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ: كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ عَلَى مَا هُوَ الرَّاجِحُ. وَقَدْ عَمِلْتُمْ بِمِثْلِ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّتَابُعِ قَدْ اسْتَكْثَرُوا مِنْ الْأَجْوِبَةِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكُلُّهَا غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ دَائِرَةِ التَّعَسُّفِ وَالْحَقُّ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُحَامَاةُ لِأَجْلِ مَذَاهِبِ الْأَسْلَافِ فَهِيَ أَحْقَرُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تُؤْثَرَ عَلَى السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَجْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَيْنَ يَقَعُ الْمِسْكِينُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ أَيُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحْسِنُ عَقْلُهُ وَعِلْمُهُ تَرْجِيحَ قَوْلِ صَحَابِيٍّ عَلَى قَوْلِ الْمُصْطَفَى. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لَا وَاحِدَةٌ وَلَا أَكْثَرُ مِنْهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ٢٢٩] فَشَرَطَ فِي وُقُوعِ الثَّالِثَةِ أَنْ تَكُونَ فِي حَالٍ يَصِحُّ مِنْ الزَّوْجِ فِيهَا الْإِمْسَاكُ، إذْ مِنْ حَقِّ كُلِّ مُخَيَّرٍ بَيْنَهُمَا أَنْ يَصِحَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِمْسَاكُ إلَّا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ لَمْ تَصِحَّ الثَّالِثَةُ إلَّا بَعْدَهَا لِذَلِكَ، وَإِذَا لَزِمَ فِي الثَّالِثَةِ لَزِمَ فِي الثَّانِيَةِ، كَذَا قِيلَ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ

وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ شَيْءٍ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَهَذَا الطَّلَاقُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأُجِيبَ بِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ بِمَا سَبَقَ فِي أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُثَلَّثِ؛ لِأَنَّا وَإِنْ مَنَعْنَا وُقُوعَ الْمَجْمُوعِ لَمْ نَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الْفَرْدِ. وَالْقَائِلُونَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَدْخُولَةِ وَغَيْرِهَا أَعْظَمُ حُجَّةٍ لَهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ لَفْظَهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُد: «أَمَا عَلِمْت أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً؟» الْحَدِيثَ، وَوَجَّهُوا ذَلِكَ بِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ إذَا قَالَ لَهَا زَوْجُهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا قَالَ: ثَلَاثًا، لَغَا الْعَدَدُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ

وَيُجَابُ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِقَبْلِ الدُّخُولِ لَا يُنَافِي صِدْقَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَغَايَةُ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا التَّنْصِيصُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ مَدْلُولِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْبَعْضِ الَّذِي وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ: وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ ذَلِكَ التَّوْجِيهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَلَامٌ مُتَّصِلٌ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُهُ كَلِمَتَيْنِ وَتُعْطَى كُلُّ كَلِمَةٍ حُكْمًا؟ هَذَا حَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>