. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[نيل الأوطار]
مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَهُ جِرَاحٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ آنِفًا إنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَدْ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَى النَّارِ، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحَةً شَدِيدَةً فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَأَخَذَ ذُبَابَ سَيْفِهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ مَسْلَمَةُ قَالَ «أُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ: لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ» قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ إنْ لَقِيتُ رَجُلًا) فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " إنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِي فَقَطَعَهَا " وَظَاهِرُهَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ وَاَلَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِخِلَافِهِ، وَإِنَّمَا سَأَلَ الْمِقْدَادُ عَنْ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ بِلَفْظِ " أَرَأَيْت إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ " الْحَدِيثُ قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ) أَيْ الْتَجَأَ إلَيْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " ثُمَّ لَاذَ بِشَجَرَةٍ " قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ) أَيْ دَخَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ: (فَإِنْ قَتَلْته فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْقَتْلُ لَيْسَ سَبَبًا لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآخَرِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ النُّحَاةِ مُؤَوَّلٌ بِالْإِخْبَارِ: أَيْ هُوَ سَبَبٌ لِإِخْبَارِي لَكَ بِذَلِكَ وَعِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ الْمُرَادُ لَازِمُهُ قَوْلُهُ: (وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ) قَالَ الْخَطَّابِيِّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْكَافِرَ مُبَاحُ الدَّمِ بِحُكْمِ الدِّينِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فَإِذَا أَسْلَمَ صَارَ مُصَانَ الدَّمِ كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ دَمُهُ مُبَاحًا بِحَقِّ الْقِصَاصِ كَالْكَافِرِ بِحَقِّ الدِّينِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إلْحَاقَهُ بِهِ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَقُولهُ الْخَوَارِجُ مِنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ بِالْكَبِيرَةِ.
وَحَاصِلُهُ اتِّحَادُ الْمَنْزِلَتَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَأْخَذِ: أَيْ أَنَّهُ مِثْلُكَ فِي صَوْنِ الدَّمِ وَإِنَّكَ مِثْلُهُ فِي الْهَدْرِ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنْ الدَّاوُدِيّ أَنَّ مَعْنَاهُ: إنَّكَ صِرْتَ قَاتِلًا كَمَا كَانَ هُوَ قَاتِلًا، وَهَذَا مِنْ الْمَعَارِيضِ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْإِغْلَاظَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ بَاطِنِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَاتِلٌ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ صَارَ كَافِرًا بِقَتْلِهِ إيَّاهُ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ الْمُهَلَّبِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّكَ بِقَصْدِكَ لِقَتْلِهِ عَمْدًا آثِمٌ كَمَا كَانَ هُوَ بِقَصْدِهِ لِقَتْلِكَ آثِمًا فَأَنْتُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِصْيَانِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنْتَ عِنْدَهُ حَلَالُ الدَّمِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ كَمَا كَانَ عِنْدَكَ حَلَال الدَّمِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ بِشَهَادَةِ التَّوْحِيدِ كَمَا أَنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ بِشَهَادَةِ بَدْرٍ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ ابْنِ الْقَصَّارِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ " أَيْ فِي إبَاحَةِ الدَّمِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ رَدْعَهُ وَزَجْرَهُ عَنْ قَتْلِهِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إذَا قَالَ أَسْلَمْتُ حَرُمَ قَتْلُهُ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْكَافِرَ مُبَاحُ الدَّمِ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي قَتَلَهُ إنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَرَفَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ مُتَأَوِّلًا فَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute