للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَبْوَابُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ بَابُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ

ــ

[نيل الأوطار]

عُنُقَهُ، قَالَ: أَكُنْت فَاعِلًا لَوْ أَمَرْتُك؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: لَا، وَاَللَّهِ مَا كَانَ لِبَشَرٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ الشَّعْبِيِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرِيحًا وَجَبَ قَتْلُهُ. وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا هُوَ قَذْفٌ صَرِيحٌ كَفَرَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَلَوْ تَابَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَتْلُ، لِأَنَّ حَدَّ قَذْفِهِ الْقَتْلُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَخَالَفَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: كَفَرَ بِالسَّبِّ فَسَقَطَ الْقَتْلُ بِالْإِسْلَامِ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يَزُولُ الْقَتْلُ وَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ. قَالَ الْخَطَّابِيِّ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ إذَا كَانَ مُسْلِمًا.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ كَالْيَهُودِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: يُقْتَلُ مَنْ سَبَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيُقْتَلُ بِغَيْرِ اسْتِتَابَةٍ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مِثْلَهُ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَنَحْوِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ فِي الْمُسْلِمِ أَنَّهَا رِدَّةٌ يُسْتَتَابُ مِنْهَا. وَعَنْ الْكُوفِيِّينَ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا عُزِّرَ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهِيَ رِدَّةٌ. وَحَكَى عِيَاضٌ خِلَافًا هَلْ كَانَ تَرْكُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ؟ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَقْتُلْ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ السَّامُّ عَلَيْك لِأَنَّهُمْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ وَلَا أَقَرُّوا بِهِ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِمْ بِعِلْمِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُظْهِرُوهُ وَلَوَوْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ تَرَكَ قَتْلَهُمْ. وَقِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَحْمِلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى السَّبِّ بَلْ عَلَى الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: وَعَلَيْكُمْ: أَيْ الْمَوْتُ نَازِلٌ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ فَلَا مَعْنَى لِلدُّعَاءِ بِهِ، أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَكَذَا مَنْ قَالَ السَّأَمُ بِالْهَمْزِ بِمَعْنَى السَّآمَةِ: هُوَ دُعَاءٌ بِأَنْ يَمَلُّوا الدِّينَ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي السَّبِّ.

وَعَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ قَتْلِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهَدٍ فَتُرِكَ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ هَلْ يَنْتَقِضُ بِذَلِكَ عَهْدُهُ؟ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِأَصْحَابِهِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَأَيَّدَهُ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَوْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ لَكَانَتْ رِدَّةً، وَأَمَّا صُدُورُهُ مِنْ الْيَهُودِ فَاَلَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ أَشَدُّ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتُلْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ دِمَاءَهُمْ لَمْ تُحْقَنْ إلَّا بِالْعَهْدِ، وَلَيْسَ فِي الْعَهْدِ أَنَّهُمْ يَسُبُّونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَنْ سَبَّهُ مِنْهُمْ تَعَدَّى الْعَهْدَ فَيَنْتَقِضُ فَيَصِيرُ كَافِرًا بِلَا عَهْدٍ فَيُهْدَرُ دَمُهُ، إلَّا أَنْ يُسْلِمَ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَعْتَقِدُونَهُ لَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ لَكَانُوا لَوْ قَتَلُوا مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَلُوا، لِأَنَّ مِنْ مُعْتَقَدِهِمْ حِلَّ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مُسْلِمًا قُتِلَ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ قِصَاصًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ وَلَوْ سَبَّ لَمْ يُقْتَلْ، قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ فَلَا يُهْدَرُ، وَأَمَّا السَّبُّ فَإِنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ بِهِ يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الدِّينِ فَيَهْدِمُهُ الْإِسْلَامُ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَرْكَ قَتْلِ الْيَهُودِ إنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ أَوْ

<<  <  ج: ص:  >  >>