للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

بَعْدَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ إلَى الْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا. قَوْلُهُ: (لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ) الْغَدْوَةُ بِالْفَتْحِ، وَاللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ: وَهِيَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْغُدُوِّ، وَهُوَ الْخُرُوجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى انْتِصَافِهِ. وَالرَّوْحَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الرَّوَاحِ وَهُوَ الْخُرُوجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا. قَوْلُهُ: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ الْجِهَادِ. قَوْلُهُ: (خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَنْزِيلِ الْغَائِبِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ تَحْقِيقًا لَهُ فِي النَّفْسِ لِكَوْنِ الدُّنْيَا مَحْسُوسَةً فِي النَّفْسِ مُسْتَعْظَمَةً فِي الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ الْمُفَاضَلَةُ بِهَا، وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا لَا يُسَاوِي ذَرَّةً مِمَّا فِي الْجَنَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الثَّوَابِ خَيْرٌ مِنْ الثَّوَابِ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَأَنْفَقَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِي مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَيْشًا فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَتَأَخَّرَ لِيَشْهَدَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْت مَا فِي الْأَرْضِ مَا أَدْرَكْت فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ»

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ تَسْهِيلُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَتَعْظِيمُ أَمْرِ الْجِهَادِ وَأَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْجَنَّة قَدْرُ سَوْطٍ يَصِيرُ كَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ لِمَنْ حَصَّلَ مِنْهَا أَعْلَى الدَّرَجَاتِ. وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّأْخِيرِ عَنْ الْجِهَادِ الْمَيْلُ إلَى سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ: (مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ) زَادَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ مُجَرَّد مَسِّ الْغُبَار لِلْقَدَمِ إذَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ السَّلَامَةِ مِنْ النَّارِ فَكَيْفَ بِمَنْ سَعَى وَبَذَلَ جُهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ.

قَوْلُهُ: (خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ) هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: «خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . قَوْلُهُ: (فُوَاقَ نَاقَةٍ) هُوَ قَدْرُ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ مِنْ الِاسْتِرَاحَةِ. قَوْلُهُ: (تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ) الظِّلَالُ جَمْعُ ظِلٍّ، وَإِذَا تَدَانَى الْخَصْمَانِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْتَ ظِلِّ سَيْفِ صَاحِبِهِ لِحِرْصِهِ عَلَى رَفْعِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُون ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ مِنْ الْكَلَام النَّفِيسِ الْجَامِعِ الْمُوجَزِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الْبَلَاغَةِ مَعَ الْوَجَازَةِ وَعُذُوبَةِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ أَفَادَ الْحَضَّ عَلَى الْجِهَادِ وَالْإِخْبَارَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ وَالْحَضَّ عَلَى مُقَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَاسْتِعْمَالِ السُّيُوفِ وَالِاجْتِمَاعِ حِينَ الزَّحْفِ حَتَّى تَصِير السُّيُوف تُظِلّ الْمُتَقَاتِلِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمُرَاد أَنَّ الْجَنَّة تَحْصُل بِالْجِهَادِ. قَوْلُهُ: (وَمَوْضِع سَوْطِ أَحَدِكُمْ) فِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ " وَقَابَ قَوْسِ أَحَدكُمْ " أَيْ قَدْره.

<<  <  ج: ص:  >  >>