للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَاب لَا يُجَاهِد مَنْ عَلَيْهِ دَيْن إلَّا بِرِضَا غَرِيمه

ــ

[نيل الأوطار]

وَهُوَ شَيْخٌ صَدُوقٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَا أَحْسَبُهُ حَفِظَهُ لِأَنَّهُ كَبِرَ وَتَغَيَّرَ حِفْظُهُ. قَالَ الْحَافِظ: وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ الْمَعْمَرِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تَفَرَّدَ بِهِ الْمَعْمَرِيُّ، فَقَدْ رَوَاهُ أَصْحَابُ أَبِي مُوسَى عَنْهُ بِلَفْظِ " عَلَى وَقْتِهَا " ثُمَّ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الْمَحَامِلِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ غُنْدَرٍ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْمَرِيَّ وَهِمَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ. وَقَدْ أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ رِوَايَةَ " فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا " ضَعِيفَةٌ. وَتَعَقَّبَهُ الْحَافِظُ بِأَنَّ لَهَا طَرِيقًا أُخْرَى أَخْرَجَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ الْوَلِيدِ، وَتَفَرَّدَ عُثْمَانُ بِذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَكَأَنَّ مَنْ رَوَاهَا كَذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ لَفْظَةِ عَلَى لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى جَمِيعِ الْوَقْتِ فَتَعَيَّنَ أَوَّلُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ لِوَقْتِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ اللَّامَ فِي لِوَقْتِهَا لِلِاسْتِقْبَالِ مِثْلُ {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١] أَيْ مُسْتَقْبِلَاتٍ عِدَّتَهُنَّ، وَقِيلَ: لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: ٧٨] وَقِيلَ: بِمَعْنَى فِي أَيْ فِي وَقْتِهَا، وَقِيلَ: إنَّهَا لِإِرَادَةِ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْوَقْت، وَفَائِدَتُهُ تَحَقُّقُ دُخُولِ الْوَقْتِ لِيَقَعَ الْأَدَاءُ فِيهِ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَيُّ) قِيلَ: الصَّوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ مُنَوَّنٍ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ وَالسَّائِلُ يَنْتَظِرُ الْجَوَابَ، وَالتَّنْوِينُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَتَنْوِينُهُ وَوَصْلُهُ بِمَا بَعْدَهُ خَطَأٌ فَيُوقَفُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُؤْتَى بِمَا بَعْدَهُ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ الْخَشَّابِ الْجَزْمَ بِتَنْوِينِهِ لِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ غَيْرُ مُضَافٍ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُضَافٌ تَقْدِيرًا وَالْمُضَافُ إلَيْهِ مَحْذُوفٌ لَفْظًا، وَالتَّقْدِيرُ ثُمَّ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ فَوُقِفَ عَلَيْهِ بِلَا تَنْوِينٍ. قَوْلُهُ: (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِزِيَادَةِ ثُمَّ، وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلَ تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّ أَعْمَالَ الْبَدَنِ يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.

وَفِيهِ فَوَائِدُ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) أَيْ خَصِّصْهُمَا بِجِهَادِ النَّفْسِ فِي رِضَاهُمَا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْء بِضِدِّهِ إذَا فُهِمَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَجَاهِدْ، ظَاهِرُهَا إيصَالُ الضَّرَرِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمَا بِهِمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا قَطْعًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إيصَالُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ كُلْفَةِ الْجِهَادِ وَهُوَ تَعَبُ الْبَدَنِ وَبَذْلُ الْمَالِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُتْعِبُ النَّفْسَ يُسَمَّى جِهَادًا. اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْمَفْهُومِ مِنْ تِلْكَ الصِّيغَةِ إيصَالُ الضَّرَرِ بِالْأَبَوَيْنِ إنَّمَا يَصِحُّ قَبْلَ دُخُولِ لَفْظِ " فِي " عَلَيْهَا، وَأَمَّا بَعْدَ دُخُولِهَا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: جَاهِدْ فِي الْكُفَّارِ بِمَعْنَى جَاهِدْهُمْ، كَمَا يُقَالُ جَاهِدْ فِي اللَّهِ، فَالْجِهَادُ الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ إيصَالُ الضَّرَر لِمَنْ وَقَعَتْ الْمُجَاهَدَةُ لَهُ هُوَ جَاهِدْهُ لَا جَاهِدْ فِيهِ وَلَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ. قَوْلُهُ: (فَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>