. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[نيل الأوطار]
الصَّحِيحَةُ عَلَى مَعْنَاهُ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ زَعَمَ الْإِمَامُ الْمَهْدِيُّ أَنَّ وُجُوبَ تَقْدِيمِ دَعْوَةِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَيَرُدُّ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَذَاهِب الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ حَكَاهَا كَذَلِكَ الْمَازِرِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. قَوْلُهُ: (ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ) فِيهِ تَرْغِيبُ الْكُفَّارِ بَعْدَ إجَابَتِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ إلَى الْهِجْرَةِ إلَى دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِالْبَادِيَةِ رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ لِقِلَّةِ مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ: (وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْء وَالْغَنِيمَة شَيْءٌ. . . إلَخْ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَنْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ وَلَمْ يُهَاجِرْ نَصِيبًا فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ إذَا لَمْ يُجَاهِدْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَالِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَبَيْنَ مَالِ الزَّكَاةِ وَقَالَ: إنَّ لِلْأَعْرَابِ حَقًّا فِي الثَّانِي دُون الْأَوَّلِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْهَادَوِيَّةُ إلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَصْرِفِ الْآخَرِ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ، وَأُجِيبَ بِمَنْعِ دَعْوَى النَّسْخِ.
قَوْلُهُ: (فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ) ظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ وَغَيْرِ الْكِتَابِيِّ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَخَالَفَهُمْ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَجُوس عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩] بَعْدَ ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَأَمَّا سَائِرُ الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ عُمُومِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: ٥] وَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْعَرَبِيِّ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَتُقْبَلُ مِنْ الْكِتَابِيِّ وَمِنْ الْعَجَمِيِّ، وَلَعَلَّهُ يَأْتِي لِهَذَا الْبَحْثِ مَزِيدُ بَسْطٍ. قَوْلُهُ: (ذِمَّةَ اللَّهِ) الذِّمَّةُ: عَقْدُ الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَنْقُضَ الذِّمَّةَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَّهَا وَيَنْتَهِكَ حُرْمَتَهَا بَعْضُ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ مِنْ الْجَيْشِ فَيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدُّ. لِأَنَّ نَقْضَ ذِمَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدُّ مِنْ نَقْضِ ذِمَّةِ أَمِيرِ الْجَيْشِ أَوْ ذِمَّةِ جَمِيعِ الْجَيْشِ، وَإِنْ كَانَ نَقْضُ الْكُلِّ مُحَرَّمًا.
قَوْلُهُ: (أَنْ تُخْفِرُوا) بِضَمِّ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَبَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ فَاءٌ مَكْسُورَةٌ وَرَاءٌ، يُقَال: أَخَفَرْت الرَّجُلَ: إذَا نَقَضْت عَهْدَهُ، وَخَفَرْتُهُ بِمَعْنَى أَمَّنْتُهُ وَحَمَيْتُهُ. قَوْلُهُ: (فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ. . . إلَخْ) هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَكَذَلِكَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْوَجْهُ مَا سَلَفَ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللَّهِ أَمْ لَا؟ ".
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ مَعَ وَاحِدٍ، وَأَنْ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مِنْ الصَّوَابِ لَا مِنْ الْإِصَابَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَنَّ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ إذْ ذَاكَ لَا تَزَالُ تَنْزِلُ وَيَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُخَصَّصُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَلَا يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute