بَاب الْكَفّ عَنْ الْمُثْلَةِ وَالتَّحْرِيقِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَهَدْمِ الْعُمْرَانِ إلَّا لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ
ــ
[نيل الأوطار]
لَا يَجُوزُ الْقَصْدُ إلَى قَتْلِهَا إذَا قَاتَلَتْ إلَّا إنْ بَاشَرَتْ الْقَتْلَ أَوْ قَصَدَتْ إلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ عِكْرِمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ يَوْمَ حُنَيْنٌ فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ هَذِهِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ غَنِمْتُهَا فَأَرْدَفْتَهَا خَلْفِي فَلَمَّا رَأَتْ الْهَزِيمَةَ فِينَا أَهْوَتْ إلَى قَائِمِ سَيْفِي لِتَقْتُلَنِي فَقَتَلْتُهَا، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَأَرْسَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْقَصْدِ إلَى قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ.
أَمَّا النِّسَاءُ فَلِضَعْفِهِنَّ، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ فَلِقُصُورِهِمْ عَنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ، وَلِمَا فِي اسْتِبْقَائِهِمْ جَمِيعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ إمَّا بِالرِّقِّ أَوْ بِالْفِدَاءِ فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى بِهِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ حَكَى الْحَازِمِيُّ قَوْلًا بِجَوَازِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ الصَّعْبِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِأَحَادِيثِ النَّهْيِ وَهُوَ غَرِيبٌ. قَوْلُهُ: (وَلَا عَسِيفًا) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَفَاءٍ كَأَجِيرٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ كَانَ مَعَ الْقَوْمِ أَجِيرًا وَنَحْوَهُ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ. قَوْلُهُ: (لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ شُيُوخِ الْمُشْرِكِينَ، وَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ» الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ الشَّيْخَ الْمَنْهِيَّ عَنْ قَتْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هُوَ الْفَانِي الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَفْعٌ لِلْكُفَّارِ وَلَا مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: " شَيْخًا فَانِيًا " وَالشَّيْخُ الْمَأْمُورُ بِقَتْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ مَنْ بَقِيَ فِيهِ نَفْعٌ لِلْكُفَّارِ وَلَوْ بِالرَّأْيِ كَمَا فِي دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٌ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشِ أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ وَقَدْ كَانَ نَيَّفَ عَلَى الْمِائَةِ وَقَدْ أَحْضَرُوهُ لِيُدَبِّرَ لَهُمْ الْحَرْبَ، فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ عَلَيْهِ» كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي تَعْلِيلِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الشُّيُوخِ: إنَّ الشَّيْخَ لَا يَكَادُ يُسْلِمُ وَالصَّغِيرُ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ. قَوْلُهُ: (وَلَا تَغُلُّوا) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَالْغَدْرِ وَالْمُثْلَةِ. قَوْلُهُ: (وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ) أَيْ اجْمَعُوهَا. قَوْلُهُ: (وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ كَانَ مُتَخَلِّيًا لِلْعِبَادَةِ مِنْ الْكُفَّارِ كَالرُّهْبَانِ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ ضَرِّ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْمَقَالُ الْمُتَقَدِّمُ لَكِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ بِجَامِعِ عَدَمِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَهُوَ الْمَنَاطُ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَاتِلِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرَادَتْ قَتْلَهُ، وَيُقَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْجَامِعِ مَنْ كَانَ مُقْعَدًا أَوْ أَعْمَى أَوْ نَحْوَهُمَا مِمَّنْ كَانَ لَا يُرْجَى نَفْعُهُ وَلَا ضَرُّهُ عَلَى الدَّوَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute