بَابُ مَنْ خَشِيَ الْأَسْرَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْسِرَ وَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ
ــ
[نيل الأوطار]
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: ١٦] وَقَوْلِهِ: " الْكَبَائِرُ سَبْعٌ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ " وَهُوَ أَنْ يَرَى الْقِتَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَتْ هَزِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوْطَاسٍ انْحِرَافًا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان. " أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ " وَإِنْ بَعُدَتْ إذْ لَمْ تُفَصِّلْ الْآيَةُ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِأَهْلِ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ " أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ " الْخَبَرَ وَنَحْوَهُ، انْتَهَى. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: «أَنَا فِئَتُكُمْ وَفِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: ١٦] وَقَدْ جَوَّزَتْ الْهَادَوِيَّةُ الْفِرَارَ إلَى مَنَعَةٍ مِنْ جَبَلٍ أَوْ نَحْوِهِ وَإِنْ بَعُدَتْ، وَلِخَشْيَةِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ضَرَرٍ عَامٍّ لِلْإِسْلَامِ، وَأَمَّا إذَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ إذَا لَمْ يَفِرُّوا فَفِي جَوَازِ فِرَارِهِمْ وَجْهَانِ.
قَالَ الْإِمَامُ يَحْيَى: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَجِبُ الْهَرَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] وَلَا إذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ انْغَمَسْت فِي الْمُشْرِكِينَ» ؟ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ. قَوْلُهُ: (لَمَّا نَزَلَتْ {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} . . . إلَخْ) .
قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ مُحَرَّمَةً وَإِنْ كَثُرَ الْكُفَّارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: ١٥] ثُمَّ خُفِّفَتْ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: ٦٥] فَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُصَابَرَةَ عَشَرَةٍ، ثُمَّ خَفَّفَ عَنْهُمْ وَأَوْجَبَ عَلَى الْوَاحِدِ مُصَابَرَةَ اثْنَيْنِ بِقَوْلِهِ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: ٦٦] الْآيَةُ. وَاسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ حُرِّمَتْ الْهَزِيمَةُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ. انْتَهَى
قَوْلُهُ: (فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً) بِالْمُهْمَلَاتِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: حِصْتُ عَنْ الشَّيْءِ: حِدْتُ عَنْهُ وَمِلْتُ عَنْ جِهَتِهِ، هَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَوْلُهُ " حَاصُوا " أَيْ حَادُوا حَيْدَةً، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: ٤٨] وَيُرْوَى جَاضُوا جَيْضَةً بِالْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ بِمَعْنَى حَادُوا انْتَهَى. قَوْلُهُ: (ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ. . . إلَخْ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد «فَقُلْنَا نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، فَنَبِيتُ فِيهَا لِنَذْهَبَ وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ، فَدَخَلْنَا فَقُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنَا، فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إلَيْهِ فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَأَقْبَلَ إلَيْنَا فَقَالَ: لَا، أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ، فَقَالَ: أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» .
قَوْلُهُ: (الْعَكَّارُونَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، قِيلَ هُمْ الَّذِينَ يَعْطِفُونَ إلَى الْحَرْبِ. وَقِيلَ: إذَا حَادَ الْإِنْسَانُ عَنْ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا يُقَالَ قَدْ عَكِرَ وَهُوَ عَاكِرٌ وَعَكَّارٌ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعَكَّارُ: الْكَرَّارُ الْعَطَّافُ، وَاعْتَكَرُوا: اخْتَلَطُوا فِي الْحَرْبِ، وَانْعَكَرَ: رَجَعَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى عَدِّهِ. انْتَهَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute