. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[نيل الأوطار]
وَالْمُرَادُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا وَوَجُّ وَالطَّائِفُ وَمَا يُنْسَبُ إلَيْهِمَا، وَسُمِّيَ الْحِجَازُ حِجَازًا لِحَجْزِهِ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ ثُمَّ حَكَى كَلَامَ الْأَصْمَعِيِّ السَّابِقَ، ثُمَّ حَكَى عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ هِيَ مَا بَيْنَ حَفْرِ أَبِي مُوسَى وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ طُولًا، وَمَا بَيْنَ يَبْرِينَ إلَى السَّمَاوَةِ عَرْضًا، ثُمَّ قَالَ لَنَا: مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ: إنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» الْخَبَرَ " وَأَجْلَى عُمَرُ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ الْحِجَازِ فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالشَّامِ وَبَعْضُهُمْ بِالْكُوفَةِ وَأَجْلَى أَبُو بَكْرٍ قَوْمًا فَلَحِقُوا بِخَيْبَرَ " فَاقْتَضَى أَنَّ الْمُرَادَ الْحِجَازُ لَا غَيْرُ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْحِجَازُ فَقَطْ، وَلَكِنَّهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَيَكُونُ دَلِيلًا لَتَخْصِيصِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِالْحِجَازِ، وَفِيهِ مَا سَيَأْتِي. قَالَ الْمَهْدِيُّ فِي الْغَيْثِ نَاقِلًا عَنْ الشِّفَاءِ لِلْأَمِيرِ الْحُسَيْنِ: إنَّمَا قُلْنَا بِجَوَازِ تَقْرِيرِهِمْ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ: " أَخْرِجُوهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " ثُمَّ قَالَ: " أَخْرِجُوهُمْ مِنْ الْحِجَازِ " عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْحِجَازُ فَقَطْ، وَلَا مُخَصِّصَ لِلْحِجَازِ عَنْ سَائِرِ الْبِلَادِ إلَّا بِرِعَايَةِ أَنَّ
الْمَصْلَحَةَ فِي إخْرَاجِهِمْ مِنْهُ أَقْوَى، فَوَجَبَ مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ
إذَا كَانَتْ فِي تَقْرِيرِهِمْ أَقْوَى مِنْهَا فِي إخْرَاجِهِمْ انْتَهَى.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا: أَنَّ حَمْلَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ عَلَى الْحِجَازِ وَإِنْ صَحَّ مَجَازًا مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْحِجَازِ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، إمَّا لِانْحِجَازِهَا بِالْأَبْحَارِ كَانْحِجَازِهَا بِالْحِرَارِ الْخَمْسِ، وَإِمَّا مَجَازًا مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، فَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ مُفْتَقِرٌ إلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ إلَّا مَا ادَّعَاهُ مَنْ فَهْمِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ فِي خَبَرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ زِيَادَةً لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَ الْخَبَرِ، وَالزِّيَادَةُ كَذَلِكَ مَقْبُولَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ اسْتِنْبَاطَ كَوْنِ عِلَّةِ التَّقْرِيرِ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ هِيَ الْمَصْلَحَةُ. فَرْعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَعْنِي التَّقْرِيرَ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَنْبَطَةَ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالدَّلِيلُ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى نَفْيِ التَّقْرِيرِ لَا ثُبُوتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ «الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» . وَحَدِيثِ «لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ» وَنَحْوُهُمَا. فَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ وَاقِعٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمُصَرَّحِ فِيهِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ كَرَاهَةُ اجْتِمَاعِ دِينَيْنِ. فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ النَّصُّ إلَّا عَلَى إخْرَاجِهِمْ مِنْ الْحِجَازِ لَكَانَ الْمُتَعَيَّنُ إلْحَاقَ بَقِيَّةِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِهِ لَهَذِهِ الْعِلَّةِ فَكَيْفَ وَالنَّصُّ الصَّحِيحُ مُصَرِّحٌ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؟ .
وَأَيْضًا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِجَازِ فِيهِ الْأَمْرُ بِإِخْرَاجِ أَهْلِ نَجْرَانَ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَلَيْسَ نَجْرَانُ مِنْ الْحِجَازِ، فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْحِجَازِ مُخَصِّصًا لِلَفْظِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ عَلَى انْفِرَادِهِ أَوْ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْحِجَازُ فَقَطْ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إهْمَالٌ لِبَعْضِ الْحَدِيثِ وَإِعْمَالٌ لِبَعْضٍ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. وَأَيْضًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute