للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ مَا جَاءَ فِي الضَّبُعِ وَالْأَرْنَبِ

ــ

[نيل الأوطار]

الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ " نَزَلْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الضِّبَابِ " الْحَدِيثُ، وَفِيهِ " أَنَّهُمْ طَبَخُوا مِنْهَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسِخَتْ دَوَابَّ، فَأَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ، فَأَكْفِئُوهَا " وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْأَحَادِيثُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْحِلِّ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا نَصًّا وَتَقْرِيرًا فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ حُمِلَ النَّهْيُ فِيهِ عَلَى أَوَّلِ الْحَالِ عِنْدَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا مُسِخَ. وَحِينَئِذٍ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ ثُمَّ تَوَقَّفَ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ. وَحُمِلَ الْإِذْنُ فِيهِ عَلَى ثَانِي الْحَالِ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ وَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَسْتَقْذِرُهُ فَلَا يَأْكُلُهُ وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ بِإِذْنِهِ فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ فِي حَقِّ مَنْ يَتَقَذَّرُهُ، وَتُحْمَلُ أَحَادِيثُ الْإِبَاحَةِ عَلَى مَنْ لَا يَتَقَذَّرُهُ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ عَلَى الْكَرَاهَةِ بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ «أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَبٌّ فَلَمْ يَأْكُلْهُ فَقَامَ عَلَيْهِمْ سَائِلٌ، فَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُعْطِيَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَتُعْطِينَهُ مَا لَا تَأْكُلِينَ؟» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَتِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ.

وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: ٢٦٧] ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّصَدُّقِ بِحَشَفِ التَّمْرِ، وَكَحَدِيثِ الْبَرَاءِ «كَانُوا يُحِبُّونَ الصَّدَقَةَ بِأَرْدَإِ تَمْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: ٢٦٧] » قَالَ: فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرِهَ لِعَائِشَةَ أَنْ تَصَدَّقَ بِالضَّبِّ لَا لِكَوْنِهِ حَرَامًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ فَهِمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ. وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إلَى التَّحْرِيمِ. وَقَالَ: اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ وَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ الْمُتَقَدِّمِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ التَّحْرِيمِ، وَدَعْوَى التَّعَذُّرِ مَمْنُوعَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: (فِي غَائِطٍ مُضَبَّةٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا فَتْحُ الْمِيمِ وَالضَّادِ، وَالثَّانِيَةُ ضَمُّ الْمِيمِ وَكَسْرُ الضَّادِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ، وَالْمُرَادُ ذَاتُ ضِبَابٍ كَثِيرَةٍ، وَالْغَائِطُ: الْأَرْضُ الْمُطَيَّنَةُ. قَوْلُهُ: (يَدِبُّونَ) بِكَسْرِ الدَّالِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا " فَلَمَّا أُوحِيَ إلَيْهِ بِذَلِكَ زَالَ التَّظَنُّنُ وَعُلِمَ أَنَّ الضَّبَّ لَيْسَ مِمَّا مُسِخَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ. وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُمْ: الْمَمْسُوخُ لَا نَسْلَ لَهُ، دَعْوَى فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ وَلَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الضَّبِّ مَمْسُوخًا فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ أَكْلِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ آدَمِيًّا قَدْ زَالَ حُكْمُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا كَرِهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَكْلَ مِنْهُ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ كَمَا كَرِهَ الشُّرْبَ مِنْ مِيَاهِ ثَمُودَ اهـ.

وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَافَ الضَّبَّ، وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعِيبُ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعَيْبِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا صَنَعَهُ الْآدَمِيُّ لِئَلَّا يَنْكَسِرَ خَاطِرُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>