. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[نيل الأوطار]
فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْعِنَبِ وَعَدَمِ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ حَرَامًا بَلْ يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ وَكَذَا تَسْمِيَتُهُ خَمْرًا. وَعَنْ الثَّالِثَةِ ثُبُوتُ النَّقْلِ عَنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ كَمَا فِي قَوْلِ عُمَرَ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَكَانَ مُسْتَنَدُهُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ اتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ عُمَرَ عَلَى الْمَجَازِ، لَكِنْ اخْتَلَفَ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ خَمْرًا، فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لِأَنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ: أَيْ تُخَالِطُهُ.
وَقِيلَ لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْلَ: أَيْ تَسْتُرُهُ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ وَجْهَهَا، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُخَالَطَةِ التَّغْطِيَةُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُخَمَّرُ: أَيْ تُتْرَكُ كَمَا يُقَالُ خَمَّرْتُ الْعَجِينَ: أَيْ تَرَكْتُهُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لِثُبُوتِهَا عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَوْجُهُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا تُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْخَمْرِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَلِلصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهِمُوا مِنْ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْعِنَبِ وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِ بَلْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَحَرَّمُوا كُلَّ نَوْعٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا وَلَا اسْتَفْصَلُوا وَلَا يُشْكَلُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ بَادَرُوا إلَى إتْلَافِ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ وَبِلُغَتِهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ تَرَدُّدٌ لَتَوَقَّفُوا عَنْ الْإِرَاقَةِ حَتَّى يَسْتَكْشِفُوا وَيَسْتَفْصِلُوا وَيَتَحَقَّقُوا التَّحْرِيمَ لِمَا كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّهْيِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بَلْ بَادَرُوا إلَى إتْلَافِ الْجَمِيعِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ فَهِمُوا التَّحْرِيمَ ثُمَّ انْضَافَ إلَى ذَلِكَ خُطْبَةُ عُمَرَ بِمَا يُوَافِقُ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى التَّعْمِيمِ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعُمَرُ وَسَعْدٌ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ، وَمِنْ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَآخَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْعِنَبِ حَقِيقَةً يَكُونُ أَرَادَ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَمَنْ نَفَى أَرَادَ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ. وَقَدْ أَجَابَ بِهَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. قَالَ: أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ نُزُولَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ الْبُسْرِ إذْ ذَاكَ فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي مَاءِ الْعِنَبِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ أَنْ يُجَوِّزَ إطْلَاقَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا بَلَغَهُمْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ أَرَاقُوا كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْخَمْرِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا وَهُوَ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَصَحَّ أَنَّ الْكُلَّ خَمْرٌ حَقِيقَةً وَلَا انْفِكَاكَ عَنْ ذَلِكَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ إرْخَاءِ الْعَنَانِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةً فِي مَاءِ الْعِنَبِ خَاصَّةً،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute