للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ تَنْفَعُ بِطَبْعِهَا كَمَا كَانَ أَهْلُ؛ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ. قَالَ عِيَاضٌ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلسَّبْعِينَ أَلْفًا مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ وَفَضِيلَةً انْفَرَدُوا بِهَا عَمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ وَالدِّيَانَةِ، وَمَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ تُؤَثِّرُ بِطَبْعِهَا أَوْ يَسْتَعْمِلُ رُقَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْوَهَا فَلَيْسَ مُسْلِمًا فَلَمْ يَسْلَمْ هَذَا الْجَوَابُ.

وَأَجَابَ الدَّاوُدِيُّ وَطَائِفَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ فِعْلَ ذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ خَشْيَةَ وُقُوعِ الدَّاءِ، وَأَمَّا مَنْ يَسْتَعْمِلْ الدَّوَاءَ بَعْدَ وُقُوعِ الدَّاءِ فَلَا. وَأَجَابَ الْحَلِيمِيُّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ غَفَلَ عَنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعَدَّةِ لِدَفْعِ الْعَوَارِضِ، فَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الِاكْتِوَاءَ وَلَا الِاسْتِرْقَاءَ وَلَيْسَ لَهُمْ مَلْجَأٌ فِيمَا يَعْتَرِيهِمْ إلَّا الدُّعَاءَ وَالِاعْتِصَامَ بِاَللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، فَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ طِبِّ الْأَطِبَّاءِ وَرُقَى الرُّقَاةِ وَلَا يَخْشَوْنَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.

وَأَجَابَ الْخَطَّابِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَرْكِ الرُّقَى وَالْكَيِّ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ فِي دَفْعِ الدَّاءِ وَالرِّضَا بِقَدَرِهِ لَا الْقَدْحُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَثُبُوتِ وُقُوعِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَعَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، لَكِنَّ مَقَامَ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ أَعْلَى مِنْ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذَا مِنْ صِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا وَعَلَائِقِهَا، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خَوَاصُّ الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ وُقُوعُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا وَأَمْرًا لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعِرْفَانِ وَدَرَجَاتِ التَّوَكُّلِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لِلتَّشْرِيعِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْقُصُ مِنْ تَوَكُّلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ كَامِلَ التَّوَكُّلِ يَقِينًا فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ شَيْئًا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرَ التَّوَكُّلِ، فَكَانَ مَنْ تَرَكَ الْأَسْبَابَ وَفَوَّضَ وَأَخْلَصَ أَرْفَعَ مَقَامًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قِيلَ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمُ التَّوَكُّلِ إلَّا مَنْ لَمْ يُخَالِطْ قَلْبَهُ خَوْفٌ مِنْ شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ حَتَّى السَّبُعُ الضَّارِي وَالْعَدُوُّ الْعَادِي وَلَا يَسْعَى فِي طَلَبِ رِزْقِهِ وَلَا فِي مُدَاوَاةِ أَلَمٍ.

وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ وَثِقَ بِاَللَّهِ وَأَيْقَنَ أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَيْهِ مَاضٍ لَمْ يَقْدَحْ فِي تَوَكُّلِهِ تَعَاطِيهِ الْأَسْبَابَ اتِّبَاعًا لِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَقَدْ ظَاهَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَلَبِسَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرَ، وَأَقْعَدَ الرُّمَاةَ عَلَى فَمِ الشِّعَبِ وَخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَأَذِنَ فِي الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ وَهَاجَرَ هُوَ، وَتَعَاطَى أَسْبَابَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَهُمْ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ وَهُوَ كَانَ أَحَقَّ الْخَلْقِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ أَيَعْقِلُ نَاقَتَهُ أَوْ يَتَوَكَّلُ؟ : " اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ " فَأَشَارَ إلَى أَنَّ الِاحْتِرَازَ لَا يَدْفَعُ التَّوَكُّلَ. قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ إنِّي أُصْرَعُ) الصَّرَعُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ: عِلَّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ الرَّئِيسِيَّةَ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ.

وَسَبَبُهُ رِيحٌ غَلِيظَةٌ تَنْحَبِسُ فِي مَنَافِذِ الدِّمَاغِ، أَوْ بُخَارٌ رَدِيءٌ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ. وَقَدْ يَتْبَعُهُ تَشَنُّجٌ فِي الْأَعْضَاءِ، وَيَقْذِفُ الْمَصْرُوعُ بِالزَّبَدِ لِغِلَظِ الرُّطُوبَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الصَّرَعُ مِنْ الْجِنِّ وَيَقَعُ مِنْ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ مِنْهُمْ، إمَّا لِاسْتِحْسَانِ بَعْضِ الصُّوَرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَإِمَّا لِإِيقَاعِ الْأَذِيَّةِ بِهِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>