للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ مَا جَاءَ فِي نَذْرِ الْمُبَاحِ وَالْمَعْصِيَةِ وَمَا أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ

٣٨٤٥ - (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَأَنْ يَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد) .

ــ

[نيل الأوطار]

الْمَعْنَى هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: " وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ " قَالَ: وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَى هَذَا اعْتِقَادُ جَاهِلٍ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ حُصُولَ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَعَهُ ذَلِكَ الْغَرَضَ لِأَجْلِ ذَلِكَ النَّذْرِ وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: " فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا " وَالْحَالَةُ الْأُولَى تُقَارِبُ الْكُفْرَ، وَالثَّانِيَةُ خَطَأٌ صَرِيحٌ

قَالَ الْحَافِظُ: بَلْ تُقَرِّبُ مِنْ الْكُفْرِ، ثُمَّ نَقَلَ الْقُرْطُبِيّ عَنْ الْعُلَمَاءِ حَمْلَ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْخَبَرِ عَلَى الْكَرَاهَةِ. قَالَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ فَيَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا، وَالْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ

قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ ابْنِ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ النَّذْرِ فَإِنَّهَا فِي نَذْرِ الْمُجَازَاةِ وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: ٧] قَالَ: كَانُوا يَنْذِرُونَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَسَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَبْرَارًا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الثَّنَاءَ وَقَعَ فِي غَيْرِ نَذْرِ الْمُجَازَاةِ، وَقَدْ يُشْعِرُ التَّعْبِيرُ بِالْبَخِيلِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِنْ النَّذْرِ مَا فِيهِ مَالٌ فَيَكُونُ أَخَصَّ مِنْ الْمُجَازَاةِ

وَلَكِنْ قَدْ يُوصَفُ بِالْبُخْلِ مَنْ تَكَاسَلَ عَنْ الطَّاعَةِ كَمَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ «الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ. وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمُجَازَاةِ لِقَوْلِهِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلِيُطِعْهُ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُعَلَّقِ وَغَيْرِهِ

قَالَ الْحَافِظُ: وَالِاتِّفَاقُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ الْمُعَلَّقِ نَظَرٌ

قُلْت: لَا نَظَرَ إذَا لَمْ يَصْحَبهُ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَالِ فِي الْقُرْبِ طَاعَةٌ، وَالْبَخِيلُ يَحْرِصُ عَلَى الْمَالِ فَلَا يُخْرِجُهُ إلَّا فِي نَحْوِ نَذْرِ الْمُجَازَاةِ وَلَا تَتَيَسَّرُ طَاعَتُهُ الْمَالِيَّةُ إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَالزَّكَاةِ وَالْفُطْرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ لَاسْتَمَرَّ عَلَى بُخْلِهِ وَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِخْرَاجُ الْمَذْكُورُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>