للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالدَّعْوَتَيْنِ

ــ

[نيل الأوطار]

فِي الْبُخَارِيِّ سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ " أَوْ ذَكَرَهَا " قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ أَكْبَرُهَا لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ الْقَصْدُ حَصْرَ الْكَبَائِرِ فِيمَا ذَكَرَ

وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ فِي آيَتَيْنِ: الْأُولَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: ٢٣] وَالثَّانِيَةُ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: ٣٠] قَوْلُهُ: «وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ» هَذَا يُشْعِرُ بِاهْتِمَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ حَتَّى جَلَسَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّكِئًا، وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ وَعَظِيمَ قُبْحِهِ، وَسَبَبُ الِاهْتِمَامِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَوْنُهَا أَسْهَلَ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ وَالتَّهَاوُنُ بِهَا أَكْثَرُ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ، وَالْعُقُوقُ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعَ، وَأَمَّا الزُّورُ فَالْحَوَامِلُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا فَاحْتِيجَ إلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعِظَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ الْإِشْرَاكِ قَطْعًا بَلْ لِكَوْنِ مَفْسَدَتِهِ مُتَعَدِّيَةً إلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ غَالِبًا وَقَوْلُ الزُّورِ أَعَمُّ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ زُورٍ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ بُهْتٍ أَوْ كَذِبٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّوْكِيدِ، فَإِنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْكَذْبَةُ الْوَاحِدَةُ كَبِيرَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ

قَالَ: وَلَا شَكَّ فِي عِظَمِ الْكَذِبِ، وَمَرَاتِبُهُ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: ١١٢] قَوْلُهُ: (حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) أَيْ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَكَرَاهِيَةً لَمَا يُزْعِجُهُ.

وَفِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدَبِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ انْقِسَامُ الذُّنُوبِ إلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَسَتَأْتِي إشَارَةٌ إلَى طَرَفٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ التَّشْدِيدِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ ثُبُوتُ الصَّغَائِرِ لِأَنَّ الْكَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا أَكْبَرُ مِنْهَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي ثُبُوتِ الصَّغَائِرِ مَشْهُورٌ، وَأَكْثَرُ مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةٌ كَوْنَهُ نَظَرَ إلَى عِظَمِ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، فَالْمُخَالَفَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَلَالِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ، لَكِنْ لِمَنْ أَثْبَتَ الصَّغَائِرَ أَنْ يَقُولَ: وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهَا صَغِيرَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ

وَقَدْ فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الصَّغَائِرِ قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: ٣١] فَلَا رَيْبَ أَنَّ السَّيِّئَاتِ الْمُكَفَّرَةَ هَهُنَا هِيَ غَيْرُ الْكَبَائِرِ الْمُجْتَنَبَةِ لِأَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ إلَّا ذَنْبٌ قَدْ فَعَلَهُ الْمُذْنِبُ لَا مَا كَانَ مُجْتَنَبًا مِنْ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لَتَكْفِيرِهِ. وَالْكَبَائِرُ الْمُرَادَةُ فِي الْآيَةِ مُجْتَنَبَةٌ فَالسَّيِّئَاتُ الْمُكَفَّرَةُ غَيْرُهَا وَلَيْسَتْ إلَّا الصَّغَائِرَ لِأَنَّهَا الْمُقَابِلَةُ لَهَا وَكَذَلِكَ يُؤَيِّدُ ثُبُوتَ الصَّغَائِرِ حَدِيثُ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ الْوَارِدِ فِي الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ مُقَيَّدًا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يُكَفَّرُ بِالطَّاعَاتِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُكَفَّرُ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْمُدَّعَى، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: إنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>