للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ التَّشْدِيدِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ

ــ

[نيل الأوطار]

التَّشْدِيدِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. قَوْلُهُ: (لَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ) أَصْلُ الْوَرَعِ الْكَفُّ عَنْ الْحَرَامِ، وَالْمُضَارِعُ بِمَعْنَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَيْسَ لَهُ وَرَعٌ عَنْ شَيْءٍ. قَوْلُهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ) فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْغَرِيمِ عَلَى غَرِيمِهِ الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّكْفِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ وَلَا بِالْحَبْسِ وَلَكِنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يُخَصِّصُ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ عُمُومِ هَذَا النَّفْيِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَلْنَذْكُرْ هَهُنَا مَا وَرَدَ فِي جَوَازِ الْحَبْسِ لِمَنْ اسْتَحَقَّهُ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَزَادَ هُوَ وَالنَّسَائِيُّ «ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ أَخْرَجَهُ، وَلَعَلَّهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاصِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً» اسْتِظْهَارًا وَطَلَبًا لَإِظْهَارِ الْحَقِّ بِالِاعْتِرَافِ

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّهُ قَامَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: جِيرَانِي بِمَا أَخَذُوا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ لِكَوْنِهِ كَلَّمَهُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَلُّوا لَهُ عَنْ جِيرَانِهِ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَحْبُوسِينَ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ، فَإِنَّ تَسْلِيطَ ذِي الْحَقِّ عَلَيْهِ وَمُلَازَمَتَهُ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الْحَبْسِ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ حَدِيثُ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ مُطْلَقَةٌ وَالْحَبْسُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ

وَحَكَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ: يُحِلُّ عِرْضَهُ: أَيْ يُغَلَّظُ عَلَيْهِ وَعُقُوبَتُهُ يُحْبَسُ لَهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ «أَنَّ عَبْدًا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَحَبَسَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَاعَ غُنَيْمَةً لَهُ» وَفِيهِ انْقِطَاعٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ فِي الْأَبْوَابِ الَّتِي قَبْلَ كِتَابِ اللُّقَطَةِ مَا لَفْظُهُ: بَابُ الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَرَمِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا التَّبْوِيبِ إلَى رَدِّ مَا نُقِلَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ السِّجْنَ بِمَكَّةَ وَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ عَذَابٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ رَحْمَةٍ. وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ اشْتَرَى دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ وَكَانَ نَافِعٌ عَامِلًا لِعُمَرَ عَلَى مَكَّةَ

وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ غَسَّانَ الْكِنَانِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ عَلَى مَكَّةَ فَابْتَاعَ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سِجْنٌ عَارِمٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَسُجِنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ انْتَهَى

<<  <  ج: ص:  >  >>