للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ طَلَبُ التَّغْلِيظِ عَلَى خُصُومِهِمْ فِي الْأَيْمَانِ بِالْحَلِفِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَعَلَى مِنْبَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَرَدَ عَنْ بَعْضِهِمْ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِجَابَةِ إلَى ذَلِكَ.

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ التَّحْلِيفُ عَلَى الْمُصْحَفِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِ الْقَائِلِ بِجَوَازِ التَّغْلِيظِ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي تَعْظِيمِ ذَنْبِ الْحَالِفِ عَلَى مِنْبَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَعْظِيمِ ذَنْبِ الْحَالِفِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ إجَابَةُ الطَّالِبِ لِلْحَلِفِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَقَدْ عَلِمْنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ الْيَمِينُ فَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي حَلَّفَهُ «احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ» كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ «وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ» وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرِّضَا لِمَنْ حَلَفَ لَهُ بِاَللَّهِ، وَوَعِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَرْضَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ، فَفِيهِ أَعْظَمُ دَلَالَةٍ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إلَى التَّغْلِيظِ بِمَا ذَكَرَ وَعَدَمِ جَوَازِ طَلَبِ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ

وَقَدْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ تَحْلِيفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْرِهِ وَحَلِفِهِ هُوَ الِاقْتِصَارَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ مُجَرَّدًا عَنْ الْوَصْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: «وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى شَيْءٍ فَأَرَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ إلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي» وَكَمَا فِي تَحْلِيفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرُكَانَةَ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَتَارَةً كَانَ يَحْلِفُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: «لَا، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» وَقَالَ تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: ١٠٦] وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّغْلِيظِ حَدِيثُ «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَوْجَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ مُطْلَقُ الْيَمِينِ

وَهِيَ تَصْدُقُ عَلَى مَنْ حَلَفَ فِي أَيِّ زَمَانٍ وَأَيِّ مَكَان، فَمَنْ بَذَلَ لِخَصْمِهِ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ حَنِثَ هُوَ وَمَنْ لَمْ يُجِبْهُ إلَى مَكَان مَخْصُوصٍ وَلَا إلَى زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، فَقَدْ بَذَلَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ الشَّارِعُ وَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ هُوَ الْيَمِينُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ وَلَمْ يَتَعَبَّدْ بِأَشَدِّ الْأَيْمَانِ جُرْمًا وَأَعْظَمِهَا ذَنْبًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يُقْتَطَعُ بِهَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ مَزِيدٍ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَمِنْ مُوجِبَاتِ النَّارِ. وَلَيْسَ فِي الْحَلِفِ عَلَى مِنْبَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَ الْعَصْرِ زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا، فَالْحَقُّ عَدَمُ وُجُوبِ إجَابَةِ الْحَالِفِ لِمَنْ أَرَادَ تَحْلِيفَهُ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ

وَقَدْ رَوَى ابْنُ رَسْلَانَ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِ التَّغْلِيظِ عَلَى الذِّمِّيِّ، فَإِنْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ فَذَاكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَغَايَةُ مَا يَجُوزُ التَّغْلِيظُ بِهِ هُوَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَمَا يُشَابِهُهُ مِنْ التَّغْلِيظِ بِاللَّفْظِ، وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مَكَان مُعَيَّنٍ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِثْلُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ فِي الْكَنَائِسِ أَوْ نَحْوِهَا فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>