للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٥٨٥ - (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إزَارِي يَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ: إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرُوا قِصَّةَ أَبِي بَكْرٍ) .

ــ

[نيل الأوطار]

ثَوْبًا يَشْتَهِرُ بِمَذَلَّتِهِ وَاحْتِقَارِهِ بَيْنَهُمْ عُقُوبَةً لَهُ، وَالْعُقُوبَةُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الزِّيَادَةُ الَّتِي زَادَهَا أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ بِلَفْظِ: " تَلْهَبُ فِيهِ النَّارُ " وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ ثَوْبِ الشُّهْرَةِ وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصًّا بِنَفِيسِ الثِّيَابِ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ يَلْبَسُ ثَوْبًا يُخَالِفُ مَلْبُوسَ النَّاسِ مِنْ الْفُقَرَاءِ، لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَجَّبُوا مِنْ لُبْسِهِ وَيَعْتَقِدُوهُ، قَالَهُ ابْنُ رَسْلَانَ. وَإِذَا كَانَ اللُّبْسُ لِقَصْدِ الِاشْتِهَارِ فِي النَّاسِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَفِيعِ الثِّيَابِ وَوَضِيعِهَا وَالْمُوَافِقِ لِمَلْبُوسِ النَّاسِ وَالْمُخَالِفِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَدُورُ مَعَ الِاشْتِهَارِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْقَصْدُ وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ الْوَاقِعَ.

قَوْلُهُ: (خُيَلَاءَ) فُعَلَاءُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَمْدُودٌ. وَالْمَخِيلَةُ وَالْبَطْرُ وَالْكِبْرُ وَالزَّهْوُ وَالتَّبَخْتُرُ وَالْخُيَلَاءُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: خَالَ وَاخْتَالَ اخْتِيَالًا إذَا تَكَبَّرَ، وَهُوَ رَجُلٌ خَالٌ أَيْ مُتَكَبِّرٌ، وَصَاحِبُ خَالٍ أَيْ صَاحِبُ كِبْرٍ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ) النَّظَرُ حَقِيقَةٌ فِي إدْرَاكِ الْعَيْنِ لِلْمَرْئِيِّ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنْ الرَّحْمَةِ أَيْ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ لِامْتِنَاعِ حَقِيقَةِ النَّظَرِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَالْعَلَاقَةُ هِيَ السَّبَبِيَّةُ، فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ إلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي حَالَةٍ مُمْتَهَنَةٍ رَحِمَهُ. وَقَالَ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: عَبَّرَ عَنْ الْمَعْنَى الْكَائِنِ عِنْدَ النَّظَرِ بِالنَّظَرِ لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إلَى مُتَوَاضِعٍ رَحِمَهُ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى مُتَكَبِّرٍ مَقَتَهُ، فَالرَّحْمَةُ وَالْمَقْتُ مُتَسَبِّبَانِ عَنْ النَّظَرِ. الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ جَرِّ الثَّوْبِ خُيَلَاءَ. وَالْمُرَادُ بِجَرِّهِ هُوَ جَرُّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارَ فِي النَّارِ» كَمَا سَيَأْتِي، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِسْبَالَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِمَا فِي صِيغَةِ مَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ جَرَّ مِنْ الْعُمُومِ، وَقَدْ فَهِمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ لَمَّا سَمِعَتْ الْحَدِيثَ فَقَالَتْ: «فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: يُرْخِينَهُ شِبْرًا فَقَالَتْ: إذًا يَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْإِسْبَالِ لِلنِّسَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ، وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: خُيَلَاءَ، يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ جَرَّ الثَّوْبِ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي هَذَا الْوَعِيدِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَفْهُومُهُ أَنَّ الْجَارَّ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ إلَّا أَنَّهُ مَذْمُومٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْبُوَيْطِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>