والذي نقوله للجمع بين هذه الروايات -وهو صحيح إن شاء الله-: إن صحبة الشافعي لمالك استمرت حتى وفاته فعلاً، أي لمدة ستة عشر عاماً، ولكنها لم تكن إقامة دائمة متصلة بالمدينة، بل كان يقيم بالمدينة ما شاء الله أن يقيم، ثم يعود إلى مكة فيقيم بها ما شاء الله أن يقيم، ثم يرحل إلى المدينة، " بل ربما إلى غيرها من البلاد والأمصار الإسلامية، يستفيد في هذه الرحلات ما يستفيده المسافر الأريب من علمٍ بأحوال الناس وأخبارهم، وشؤون اجتماعهم، فلم تكن ملازمته لمالك رضي الله عنه بمانعة من سفره واختباراته " على حد تعبير شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الشافعي.
ولكن الذي لا يصح مع هذا هو قول العلامة الكوثري: " إنه انتقل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً؛ فالانتقال إلى اليمن، والانشغال بالولاية، مع بعد الشقة يقطع صحبته لمالك التي تضافرت الروايات أنها استمرت حتى وفاة مالك سنة ١٧٩ هـ هذا أولاً، وثانياً - المتفق عليه أن انتقاله إلى اليمن كان ليتولى (ولاية)، فهل يصح أن يكون ذلك وسنه سبعة عشر عاماً؟؟
وأما الاستدلال بأنه يروي عن مالك بثلاثة وسائط فأكثر، فمع قوة هذا الاستدلال، فلا ينهض دليلاً على أن الشافعي انتقل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً، فالجهة مُنْفكّة -كما يقول المناطقة- ولا ينهض دليلاً على انقطاع تلمذة الشافعي لمالك ومدارسته له، فلم لا يكون انصراف الشافعي مع مالك إلى مدارسة الفقه وطرق الاستنباط، أما الأخبار والآثار، فكان يحصلها من تلاميذ مالك، ثم إن الشافعي الْتقى بفقه مالك وأخبار مالك مرة ثانية حينما انتقل إلى مصر، وكان بها أعلام تلاميذ مالك، فسمع منهم ودارسهم، فمن هنا كانت الوسائط.
ثم نحن قد أثبتنا أن اتصاله بمالك والتلمذة له -مع أنها دامت حتى وفاته- إلا أنها كانت منقطعة تتخللها رحلات عن المدينة إلى مكة أو غيرها، فمن هنا كان الأخذ عن مالك بالوسائط.
[الرحلة إلى اليمن]
بعد وفاة الإمام مالك، واستقرار الشافعي بمكة، وكان قد حاز فقه مدرسة المدينة، وأحاط بمنهجها، وضم ذلك إلى ما تلقاه عن شيوخ مكة ومدرستها، وصار من أعلام