- ومثال آخر أعجب من هذا، جاء في أحد كتب السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام الحديثُ المعروف المتفق عليه:" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا (يكسِفان) لموت أحد، ولا لحياته ". فإذا بالمحقق يغيرها إلى (ينكسفان) قائلاً: في الأصل (يكسفان).
واعجب معي لماذا غيرها؟ لم يقل لنا!! واللفظ وارد في حديث شريف، لماذا لم يرجع به إلى مصدره في الصحيحين أو أحدهما إذا لم يعجبه لفظ (يكسفان)؟.
وبعمله هذا أوهمنا أن (يكسفان) من الأخطاء اللغوية التي يصار إلى تصحيحها من غير بيان السبب أو المصدر. مع أنها واردة في نص الحديث.
ولكن أتاه كل هذا الخلل من صفتين: الجرأة، والاعتماد على محصوله ومعلومه من اللغة.
وهذا المحقق نفسه، وفي الموضع نفسه، من الكتاب نفسه، يقول الكتاب:" كَسَفت الشمس يوم وفاة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيضبطها (كُسِفت)، بضم الكاف وكسر السين، مجانباً الصواب المحفوظ في القرآن الكريم: " فإذا برق البص وخَسَف القمر " ولكنها الجرأة والعجلة.
أكتفي بهذه الأمثلة في هذا الباب وعندي منه -على جذاذات- ما يملأ مجلداً كاملاً، تجمَّع لدي من طول معاناتي، ومطالعاتي، فأخذت أدون وأسجل. وفي النية -إذا نسأ الله في الأجل- أن نخرجه، مدققاً موثقاً، مبيناً أسماء الكتب التي وقع فيها هذه الأوهام، ليكون استدراكاً وتصحيحاً، وإنصافاً لأئمتنا، أصحاب هذه الكتب، وتدريباً وتنبيهاً لأبنائنا الشُّداة المبتدئين، عسى أن يكون في ذلك فائدة لهم.
[٦ - الحذر من التصحيف والتحريف]
وهذا في الحقيقة أُسُّ العمل وصلبه، ودواعيه كثيرة، وأبوابه متعددة، ولا منجى منه إلا بتوفيق الله سبحانه وإلهامه الذي يهبه لمن يشاء، كفاء إخلاصهم، وصبرهم ومصابرتهم، ومثابرتهم. فكم من كلمات تهجم العين عليها، فتقرؤها قراءة خاطئة، وكم من كلمات يصحفها الناسخون.