وعلى هذا يكون الشافعي قد استقر على ترك بغداد لما رأى من تغير وجهها، ولما استشعره -بفراسته- من ظهور أمر المعتزلة، فجاءته دعوة والي مصر لتحدد الجهة التي يترك بغداد إليها، وليست الدعوة -فيما نقدر- صالحةً وحدها لتغيير قراره بالبقاء في بغداد، وإنما جاءته وهو يهم بالرحيل عن بغداد لتحدد وجهته التي ينتقل إليها، ولا مانع أن نقول: إنها أيضاً صادفت رغبة في نفس الشافعي الذي كان يرى في الانتقال والترحال معرفةً وخبرة بالحياة والناس، وإحاطة بما عند من يلقاهم من العلماء والقراء والمحدثين.
ومعروف مشهور أقوال الإمام الشافعي في مدح السفر وتعديد فوائده.
[فقه الشافعي في مصر]
نزل الشافعي بمصر، فوجد حياة تموج بالفقه والفقهاء، وجد فقه الإمام الليث، وفقه الإمام الأوزاعي، وفقه الإمام أبي حنيفة، وفقه الإمام مالك.
وعلى عادة أئمتنا -قديماً- رضوان الله عليهم، كانوا يرون أن الاحتفال بمن يقدم إليهم من العلماء لا يكون إلا بعقد مجالس العلم، والاستماع إلى ما عنده، وعَرْض ما عندهم، ويتبع ذلك المُدارسة والمناظرة، كل ذلك طلباً للحق، وتحصيلاً للفوائد والفرائد.
اطلع الشافعي على ما عند علماء مصر، واتخذ حلقته في جامع عمرو بالفسطاط، وأقبل عليه الفقهاء يسمعون ويدارسون، حتى انحاز إليه الكثير من أتباع مالك وأبي حنيفة، بل من رؤوسهم مَنْ صار من أخص تلاميذ الشافعي مثل: عبد الله بن عبد الحكم، ومحمد ابنه، والبويطي، والمزني، فقد كانوا يقولون بقول مالك قبلاً.
استقر الشافعي في مصر نحو خمس سنوات فقط، ولكنها كانت سنوات مباركات؛ فإذا أحصينا ما ألفه الشافعي وأملاه من كتب، وما قعد له من دروس ومواعظ، وما عقد من مناظرات ... إذا أحصينا ذلك، وجدنا أن الزمن الذي قضاه