في مفتتح القرن السابع الهجري، وجد أئمةُ المذهب هذه الثروة الفقهية الهائلة التي نمت وترعرعت واكتملت في غضون القرون السابقة، فكان من طبيعة الأمور، وسنن التطور أن ينصرف عملهم وجهدهم إلى تحرير المذهب، لم يكن أمامهم إلا العمل في هذا المجال، فقد كان الفقه قد نَضِج، وصار بعيداً -كما قال إمام الحرمين-: " أن تقع مسألة لم يُنصّ عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص، ولا مندرجة تحت ضابط ".
ومن هنا كان قَدَرُ الشيخين: الرافعي، عبد الكريم بن محمد القزويني. ت ٦٢٤ هـ، والنووي، يحيى بن شرف المُرِّي. ت ٦٧٦ هـ أن يصرفا جهدهما، ويستفرغا وُسعهما في تتقيح المذهب وتحريره: الأول في كتابه (فتح العزيز بشرح الوجيز)، المسمى بالشرح الكبير، و (المحرر)، والثاني في (روضة الطالبين)، و (منهاج الطالبين)، و (المجموع) شرح المهذب لأبي إسحاق الشيرازي (لم يتمه)
عُني هذان الإمامان الجليلان بتتبع كتب المتقدمين، والنظر في الأقوال والأوجه والاجتهادات والاختيارات، ووزن الأدلة وتقديرها، لتحديد ما هو المذهب منها.
ولهذا اصطلح علماء الشافعية بعدهما على تلقيبهما بشيخي المذهب، وصار القول المعتمد في المذهب ما اتفق عليه الشيخان، فإن اختلفا، فما جزم به النووي، ثم ما جزم به الرافعي.
"فَرَأْيُ الشيخين مقدم حتى لو عارضه نصُّ الشافعي، مع أن نص الشافعي في حقهم كنص الشارع في حق المجتهد.
وقد عللوا هذا التقديم بأن المتبحر في المذهب -كأصحاب الوجوه- له رتبة الاجتهاد المقيد، ومن شأن هذا أنه إذا رأى نصاً خرج عن قاعدة الإمام، ردّه إليها - أي أَوَّلَه- إن أمكن، وإلا عمل بمقتضى القاعدة، وخالف نص الإمام، فقد ترك الأصحاب إذاً نصوص الشافعي الصريحة، أو أوّلوها؛ لخروجها عن قاعدته.
فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص، ولا يقال: إنهم لم يطلعوا