ويعنينا من عرض هذه المسألة إثبات ما نحاوله " من أن شدة تتبع كلام المتقدمين بالبحث والتحقيق " كان صفة لازمة لإمام الحرمين، عرف بها، وشاعت عنه.
ثالثاً - الاهتمام بوضع القواعد والضوابط:
اهتم إمام الحرمين في كتابه هذا بوضع القواعد والضوابط اهتماماً بالغاً، وإذ نقول ذلك لا نقوله لما رأيناه من كثرة القواعد والضوابط التي رأيناها في كتابه، وإنما نقوله بلسانه، حيث أعلن مراراً وتكراراً:" أن من أجلّ مقاصده في هذا الكتاب هو التقعيد والتأصيل للأبواب والفصول، ووضع الضوابط التي تلم شعثها، وتجمع متفرقها " قال ذلك أوّلاً في خطبة الكتاب، حيث وصفه بأنه " يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمعاقد " ثم ردّده على طول الكتاب بأكثر من عبارة، ووضحه بأكثر من أسلوب، وهاك بعض نماذج وشواهد لما نقوله:
* من هذا الباب ما قاله في فصل شرط التيمم تقديم طلب الماء، حيث عقب على ذلك قائلاً:" ومما أحرص عليه جهدي أن أضبط مواضع الانتشار، وأوضح مقام الاستبهام، على مبلغ الإمكان، وقد يتأتى ذلك بأن نقدم المعلومات، حتى يرجع موضع الإشكال إلى ما يقرب النظر فيه ". اهـ
فهو يؤكد حرصه على ضبط مواضع الانتشار ثم هو يرى أن ذلك قد يكون بالتدريج، حيث يقدم المعلوم، لينطلق منه لتعليم المجهول.
وهذا ما استقر عليه علماء التربية المعاصرون، حيث يقررون أن الانتقال من المعلوم إلى المجهول هو الطريقة الصحيحة للتربية والتعليم.
* ولعل العبارة الآتية التي جاءت تعقيباً على مسألة من مسائل كتاب القراض، تكون أكثر إيضاحاً لهذا المعنى الذي أشرنا إليه.
قال:" ... وقد بان الآن ومما أُجريه في هذا المجموع -ولا شك في تبرّم بني الزمان به- أني كثيراً ما أجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تُفضي إلى مقر المذهب آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب، والنظر.
وهذا من أشرف مقاصد الكتاب، فلست أخل به لجهل من لا يدريه". اهـ