رحل الشافعي إلى بغداد طواعية هذه المرة، فلماذا؟ وما الذي دعاه إلى الانتقال إلى بغداد؟
كان الشافعي في القَدْمة الأولى قد حصَّل علم أهل العراق، وأحاط بما عند فقهائهم، وعرف مناهجهم، وخصائص مذهبهم، وسمع ما عندهم من آثار وأخبار، فلأيّ أمرٍ يعود الآن؟
لم يعد الشافعي هذه المرة ليأخذ من العراق، وإنما عاد ليعطي، كان الشافعي قد رأى بعينيه مكانة بغداد وسعة سوق العلم، وكثرة مجالسها وحلقاتها، وأنها تموج بأفواج العلماء من كل حدب وصوب، فقد كانت حاضرة الدّولة، بل حاضرة الدنيا، فمن أراد أن يعلن جديداً، أو يُذيع مذهباً، أو ينشر رأياً، فلن يجد أعلى من منابر بغداد.
من أجل هذا قصد الشافعي بغداد -هذه المرة- ليقرر مذهباً جديداً، وفقهاً جديداً، لا هو بالفقه المالكي الذي حصَّله على مالك وعلماء المدينة، ولا بالفقه الحنفي الذي حمله عن محمد بن الحسن وعلماء العراق.
دخل الشافعي بغداد هذه المرة ليكون صاحب حلقة يدرِّس ويقرر، لا ليسمع ويتلقى، دخل الشافعي المسجد الكبير في بغداد واتخذ مجلسه في صدر حلقته، وكان في المسجد عشرات الحلقات، انفض أكثرها، واتسعت حلقة الشافعي، ورفع به أصحاب الحديث رؤوسهم، وأطلقوا على الشافعي. (ناصر الحديث)(١).
في بغداد هذه المرة أظهر الشافعي مذهبه، ووضع كتبه، ووضع ضوابط مذهبه: وضع كتبه التي عرفت بالمذهب القديم، ووضع ضوابط مذهبه في (الرسالة) التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي.
وكان بقاؤه في بغداد مدة سنتين، إذ جاءها سنة ١٩٥ هـ وغادرها سنة ١٩٧ هـ.
(١) عن منهج الشافعي في الاستنباط، الذي جمع به بين المدرستين اقرأ بحثاً قيماً بعنوان (منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه والأصول) للعلامة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية، بيروت، دار ابن حزم، ١٤٢٠ هـ، ١٩٩٩ م.