للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحاجة، فالحاجة أم الاختراع، كما يقولون!، وأنت ترى أن مفردات اللغة، وأسماء المواضع والبلدان، وكذلك أسماء الأعلام والرجال ليست مما يُحفظ -عادة- وتنشط الذاكرة إلى احتوائه، والاستمتاعِ بحفظه، ولذلك كانت الحاجة ماسة لتدوينه وترتيبه، لتيسيره وتقريبه.

أما متن الحديث، فإنه وإن كان من أعز وأحب ما يُحفظ وتنشط له الذاكرة، إلا أنه منذ نهاية القرن الأول، ومطلع القرن الثاني، اتسعت الرواية، وكثر الرواة، فاحتيج إلى تدوين الحديث وفهرسته لتيسير مراجعته، وتحرير الفرق بين رواية ورواية، فظاهروا الحفظ بالكتابة والفهرسة، بعد أن ظلوا يَنْهون عنها طول القرن الأول.

أما العلوم والفنون الأخرى، فلم ينشطوا لفهرستها اكتفاءً بالحفظ واحتواء الذاكرة عليها، فقد كانت صدورهم بحق أوعيةَ العلم، وكانت أخبارهم في ذلك عجباً من العجب.

ولولا أننا أدركنا من مشايخنا من يملك مثل هذه الحافظة اللاقطة، لقلنا: إن أخبارهم هذه -في الحفظ- مبالغات مدعاة لا يقبلها عقل.

لكنا أدركنا بعضاً من مشايخنا يملك مثل هذه الذاكرة الحافظة اللاقطة، منهم شيخنا الجليل، (الشيخ محمد أبو زهرة) فقد رأيناه يجلس لمناقشة الأطروحات الجامعية، وليس بيده ورقة، وليس أمامه نسخة من الأطروحة، ويأخذ في المناقشة فيحدد -من ذاكرته- للطالب الصفحة والسطر، والعبارة موضع المناقشة والمراجعة.

وأحياناً لا يهتدي الطالب -لارتباكه- إلى الموضع الذي أشار إليه الشيخ، فيرفع رأسه ناظراً للشيخ بما معناه أن الشيخ قد يكون وهم في تحديد الموضع، فيأتيه صوت الشيخ متصنعاً الحدة: يا بني دقق النظر وأعد القراءة، العبارة أمام عينيك في السطر رقم كذا!! ويعاود الطالب النظر، فيكون الأمر كما قال الشيخ!!!

لولا هذه النماذج التي أدركناها ورأيناها بأعيننا، لَرَدَدْنا أخبار أئمتنا الماضين، وقلنا: إن هذا من المستحيل عقلاً!! فكيف يستطيع إنسان أن يحيط بعشرات المجلدات، ويحفظها في ذاكرته؟ ويستعيدها، وكأنها بمرأى منه أمام عينيه.

نعود فنقول: من أجل هذا لم يحتاجوا إلى فهرسة فنٍّ غير الفنون التي أشرنا إليها.