للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكذلك لو شك، فلم يدر أسجد سجدةً أو سجدتين، فيأخذ بأنه سجد سجدة واحدة، ويأتي بسجدة أخرى.

ثم أجمع الأئمة قاطبة في أنه بهذا السبب الذي جرى، وهو بناؤه على الأقل وإتيانه بسجده أخرى لا نأمره بسجدتي السهو ابتداءً، وإن كان قياس البناء على الأقل في ركعات الصلاة يوجب أن يسجد هاهنا؛ فإنه يجوز أن تكون السجدة التي أتى بها أو السجدتان جرتا على حكم الزيادة، وأنه قبلهما سجد سجدتين، وحكى الأئمة الوفاق في ذلك من المذاهب كلها.

وفي هذه المسألة جرت مفاوضة بين الكسائي (١) وأبي يوسف (٢)، فإن الكسائي قال: من تبحر في صنعةٍ يهتدي إلى سائر الصنائع، فقال أبو يوسف: فأنت متبحر في العربية، فما قولك فيمن شك هل سجد للسهو أم لا؟ فأَخَذَ (٣) بأنه لم يسجد، فسجد، هل يلزمه السجود لجواز أن السجدة التي أتى بها بعد التردد زائدة؟ فقال الكسائي: لا يسجد، فسأله العلّة، فقال: لأن المصغَّر لا يصغر. فذكر العلة في صيغة مسألة من العربية، وذلك لأن التصغير لو صغر، لصغر تصغير التصغير، ثم هذا يتسلسل إلى غير نهاية.

كذلك الذي سجد للسهو في السجود، فلو أمرناه بالسجود لذلك، فقد يسهو على النحو الأول، فلو سجد السجدتين الأخريين اللتين أمرناه بهما، فيحتاج إلى أن يسجد مرة أخرى، ثم يفرض مثل هذه الوسوسة أبداً. فعُدَّ هذا من محاسن آثار فطنة الكسائي؛ فإنه أصاب أولاً في الجواب، ثم طبق مفصل التعليل، وأتى بمسألة من


(١) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء. الكوفي، مؤدب الرشيد، وابنه الأمين، وجليس الخلفاء، إمام اللغة، والنحو، والقراءات. ت ١٨٩ هـ (الأعلام للزركلي).
(٢) أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري. صاحب الإمام الأعظم أبي حنيفة، وقاضي القضاة، وناصح هارون الرشيد، ومؤلف كتاب الخراج له. (ر. الجواهر المضية في طبقات الحنفية: ٢/ ٢٢٠، والبداية والنهاية: ١٠/ ١٨٠).
(٣) كذا في جميع النسخ، وفي (ت ٢): "فأخبر" وهي واضحة المعنى، أما "أخذ" فمعناها: رأى واختار، ثم جاءتنا (ل) فكانت مثل سابقاتها: "فأخذ".