للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كل جمعة بوعظ الناس، وكيف يتحقق مع هذا تجويز ترك الإصغاء إلى الخطبة؟ ولو جاز ذلك، لما كان في إيجاب حضور أربعين من أهل الكمال معنىً وفائدة، ولوجب أن يسوغ أن يحضروا ويناموا، والإمام رافع عقيرته، ويجب على مساق هذا ألا يجب على الخاطب رفعُ صوته بالخطبة. ولا يعتقد هذا ذو بصيرة في المذهب، وقد اشتد نكير أئمتنا على أصحاب أبي حنيفة (١) لما قالوا: ينعقد النكاح بحضور شاهدين لا يفهمان عقدَ النكاح، وقالوا: من لم يفهم من تخصيص النكاح بحضور الشهود أن الغرض أن يتحملوه ويفهموه، فقد بعدوا، وتناهَوْا في العناد والجحد، فيجب من ذلك القطعُ بأنه يجب حضورُ أربعين من أهل الكمال، ويجب أن يُصغوا، ويجب على الخاطب أن يُسمعهم أركان الخطبة، ولو حضر من حضر، وارتفع منهم اللغط على وجه لا يتأتى معه السماع، فهذا قطعاً بمثابة ما لو لم يحضروا، أو انفضُّوا وانصرفوا، وإذا كان كذلك، فيجب تنزيلُ القولين وتقدير تفريعهما على وجه، فنقول: إذا اجتمع في بلدة من أهل الكمال مائة ألفٍ مثلاً، فيجب عليهم إقامةُ الجمعة، ولكن لا يجب عليهم الاستماع؛ فإنَّ ذلك غيرُ ممكن، وإقامة الجمعة من جميعهم ممكن، فيجب الاستماع من أربعين منهم لا بأعيانهم، فنقول: لو شهد أربعون من أهل الكمال، وبعُدَ الآخرون، سقط [الفرض] (٢) في الاستماع [عن] (٣) الكافة، ولو حضر جمع زائدون على الأربعين، ففي وجوب الإنصات على آحاد من حضر، وأمكن الاستماع منه القولان.

ووجه خروجهما أنا لو جوّزنا لكل واحد أن يتكلم، تعويلاً على أنه يبقى أربعون غيرُه، لجرّ ذلك جواز التكلّم، من كل واحد، وهذا يُفضي إلى أن يتكلم جميعُهم، فَيُفْضِي ذلك إلى سقوط الاستماع رأساً، فهذا يضاهي ما لو تحمل جماعة شهادةً، وكان الحق يثبت بشاهدين، فإذا طالب ذو الحق واحداً منهم بإقامة الشهادة، ففي جواز امتناعه عن الإقامة، تعويلاً على أن الغرض يتحصل بغيره خلاف معروف في


(١) قضية فَهْم شهود النكاح لما يجري في مجلس العقد موضع خلاف عند الحنفية. (ر. البحر الرائق: ٣/ ٩٤، ٩٥، حاشية ابن عابدين: ٢/ ٢٧٣).
(٢) في الأصل، وفي (ط): الغرض. وهذا تقدير منا رعاية للسياق. وقد أكدته (ل).
(٣) تقدير منا رعاية للمعنى، وفي النسختين: من. وهذا أيضاً أكدته (ل).