الإمام عن المسألة في النهاية، وبما جاء في كتب الخلاف المتاحة، ومن قبل ذلك ومن بعده توفيق الله سبحانه، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
٤ - علم السياسة الشرعية:
كان إمام الحرمين مثل كل أئمتنا، يعيش واقعه، ولا ينفصل عنه، يظهر ذلك في علاجه لمسائل الفقه المختلفة، إن في العبادات، أو في المعاملات، وسواء في الأنكحة أو الجنايات، وليس كما قال بعض الباحثين (١): " إن المؤسسة العلمية انفصلت مبكراً عن المؤسسة السياسية، فمنذ فجر تاريخنا - بعد العصر الراشدي، بل من يوم مقتل عثمان رضي الله عنه أخذت المؤسسة العلمية في الانفصال عن المؤسسة السياسية، أو تمت العزلة بين الزعامة السياسية، والزعامة الفكرية، وعزلت الزعامة الإسلامية الملتزمة " هكذا قال بنص حروفه.
وأقول: إن هذا الكلام باطل ببديهة العقل، وباطل بحقائق التاريخ، باطل ببديهة العقل، فليس يصح في العقل السليم أن أمة هذا حالها (عَزلٌ للزعامة الفكرية وإقصاء لها) تنتج، وتصنع كلَّ هذه الحضارة التي ارتادت للبشرية طريق الحق والعدل والسلام والأمن والإيمان، والإخاء والمساواة، ودانت لها الدنيا أكثر من ألف عام.
وباطلٌ بحقائق التاريخ الذي يثبت أن كثيراً من (زعماء السياسة أنفسهم) مَنْ جمع بين الزعامة السياسية والفكرية، مثل عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، وغير هؤلاء ممن لا نعلمهم.
وباطل أيضا بحقائق التاريخ التي تثبت أن أئمتنا (زعماء الفكر) لم يعتزلوا ولم يُعزلوا أبداً على طول التاريخ، فأبو جعفر المنصور يطلب من الإمام مالك أن يضع له (الموطأ) وهارون الرشيد يطلب من أبي يوسف أن يضع له الخراج، والإمام
(١) لم ألتزم بعزو هذا الكلام إلى صاحبه، فليس المقصود الرد على شخصٍ بعينه، ولكن الذي يعنينا هذا النمط من التفكير، وصاحب هذا الكلام ليس فرداً، فهذا الكلام أصبح بديهية من البديهيات، ومسلمة من المسلّمات عند كثيرٍ ممن يدعون بالمجددين أو المستنيرين، وهذا الكلام أصلاً مسلوخ من كلام المستشرقين.