التقعيد، ووضع الضوابط - ولم يعتنوا به العناية اللائقة، فيقول:
" ... هذا ما أطلقه الأصحاب، وما ذكروه كلام مرسل، ومقصودنا ضبطه، ولم يهتم به أئمة المذهب، ولم يعملوا فيه وفي أمثاله القرائح الذكية، واكتفى الناقلون عنهم بظواهر الأمور، وانضم إليه قلة البحث، فصار أمثال ذلك عماية عمياء، والموفق من يهتدي إلى المأخذ الأعلى؛ فإن مذهب إمامنا الشافعي تَدْواره على الأصول، ومآخذ الشريعة " ثم استمرّ، فوضع ضابطاً شاملاً جامعاً (١).
* وحينما ينتشر الفصل، ويتشعب بصورة لا يمكن وضع ضابط يلم شعثه، ويجمع متفرقه، لا يتردد أن يعلن ضيقه وتبرّمه وأن ذلك شديد على نفسه، مثال ذلك: ما جاء في باب صلاة المسافر واشتراط مفارقة المنازل؛ حتى يسمى مسافراً خائضاً في السفر، يفصل بين الخارج من بلدة والخارج من قرية، ثم من كان من أهل الخيام، ويحكي ما قاله الأصحاب في ذلك، وينتشر الكلام فيما يعدّ من البلدة وما لا يعدّ، وما يعدّ من القرية وما لا يعدّ، ويطول الكلام ويتشعب، ولا يمكن وضع ضابط له، فيعلن أن ذلك شديد على نفسه، فيختم الكلام قائلاً:
" فهذا منتهى التفصيل في المواضع التي يعتبر مجاوزتها، وما فصّلته غاية الإمكان فيه، وأشد ما أعانيه في هذا المجموع أمثال هذه الفصول؛ فإنها في الكتب منتشرة لا ضبط لها، ولست أرى فيها اعتناء من الأولين لمحاولة الضبط، والله ولي الإعانة والتوفيق، بمنّه ولطفه " فهذه العبارات تنطق بشدة تشوفه إلى وضع الضوابط والمعاقد، وتعبر عن ضيقه وتبرّمه لقلة عناية الأولين بهذا الجانب.
* وحينما تنتشر أطراف بعض الفصول، وتشتبك بفصولٍ وأبواب أخرى ينبه إلى أنه سيذكر الضابط في أخص الفصول به، وأولاها بذكره، ففي فصل النهي عن الاحتكار من كتاب البيوع، أخذ يفرق بين المحتكر الذي يلحقه اللعن والوعيد، ومن يدخر في وقت الرخاء، أو من يدّخر لأهله في وقت المخمصة واستحلال الميتة، وماذا يدّخر،
(١) لا نريد أن نطيل بذكر هذا الضابط وأمثاله؛ فليس هذا مكانه، ولو ذكرنا هذه الأمثلة والنماذج التي نومىء إليها، لخرجت هذه المقدمات عن وضعها، حيث يصير حجمها أضعافاً.