"وقرأت بخط أبي جعفر (محمد بن أبي علي): سمعت أبا المعالي يقول: قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهي أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يُدركني الحق بلُطف بره، فأموتَ على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني (١)! يعني: نفسه.
يقصد بالذي نُهي عنه أهل الإسلام: علم الكلام، فقد نهى عنه إمامه الشافعي، ونهى عنه مالك وأحمد، وغيرهما من الأئمة".
ويبدو أنه تأول نَهْي أهل الإسلام أنهم نهوا من يخاف عليه السباحة في هذا البحر الخضم، ويخشى عليه من الغرق، وهو يرى نفسه أقوى من ذلك.
كما قصد بتخلية أهل الإسلام وعلومهم الظاهرة: أنه دخل في العلوم العقلية والفلسفية وتغلغل فيها، ولم يشتغل بالعلوم النقلية من الحديث والآثار ونحوها، كما اشتغل بها غيره.
وهذا القول من هذا الإمام الكبير الذي أنفق عمره في هذا اللون من الثقافة العقلية التي امتزجت بفلسفة اليونان وجدلياتهم، التي لا تنفع غليلاً، ولا تهدي سبيلاً .. هذا القول يؤكد أن لا طريق أهدى ولا أجدى من طريقة القرآن في تأسيس العقيدة، وهي الأقرب إلى الفطرة، والألصق بالعقل والوجدان، وهو ما كان عليه الصحابة وتابعوهم بإحسان.
وإنما يستفاد من (علم الكلام) في الدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين من أصحاب الأديان والفلسفات الأخرى، والفرق المبتدعة.
(١) الخبر في (المنتظم) لابن الجوزي: ٩/ ١٩، وأعلام النبلاء: ١٨/ ٤٧١، و (طبقات الشافعية) للسبكي: ٥/ ٥٨٥.