للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، فإذا جنّ، فالجنون لا يقطع توقع التطليق بتقدير الإفاقة، ولكن إذا اتصل بالموت أسندنا اليأس إلى أول الجنون، كذلك البينونة تنافي التطليق، ولا تنافي توقّعه، فإذا استمرت البينونة إلى الموت، كان بمثابة اتصال الجنون بالموت، فيلزم من هذا المساق إسناد اليأس إلى الفسخ، فليقع الطلاق قُبَيْله.

وليتصوّن المرء الآن من الوقوع في الدَّوْر؛ فإن الطلاق المعلق لو كان رجعياً، انتظم فيه تصوّر الفسخ، وإن كان بائناً، وقع في قاعدة الدَّور، فلا التفات إليها؛ فإنها بين أيدينا (١)، وسنفري فيها فريّنا (٢)، والله المستعان.

٩٠٦٢ - والغرض الآن الفرق بين أن يقول: إن لم أطلقك فأنتِ طالق، وبين أن يقول: إن لم أضربك، فأنت طالق، فإن اليأس عن التطليق يستند إلى أول البينونة؛ فإن البينونة تنافي التطليق، والبينونة لا تنافي الضرب، فاليأس من الضرب يقع قبيل الموت، ولا يصادف محلاً للطلاق.

ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فانفسخ النكاح بردةٍ أو غيرها، ثم جدد عليها نكاحاً، فالتطليق يتصوّر في النكاح الثاني، وإن منعنا عَوْد الحنث، فإن الذي يمتنع هو الطلاق المعلّق لا التطليق في صورته، وصورة التطليق في النكاح الثاني


(١) بين أيدينا: أي أمامنا.
(٢) وسنفري فيها فريّنا: يقال: فلانٌ يفري الفريّ، وهو أن يبالغ في الأمر حتى يتعجب منه، والفريّ الأمر العظيم.
وإمام الحرمين هنا ناظرٌ إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمر بن الخطاب: "فلم أر عبقرياً يفري فريّه" (ر. غريب الحديث للخطابي: ٢/ ٥٧١) وفي القاموس: الفريّ كغني يأتي بالعجب في عمله. والحديث متفق عليه، رواه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، ح ٣٦٣٤، وأطرافه في ٣٦٧٦، ٣٦٨٢، ٧٠١٩، ٧٠٢٠.
ورواه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، ح ٢٣٩٣.
وتمام الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني على قليبٍ عليها دَلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غرباً، فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقرياً يفري فريّه".