للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا حلف لا يهب، فوهب وقبِل المتهب، فهل يتوقف الحنث على الإقباض؟ اختلف أصحابنا فيه على ما حكاه القاضي: فقال بعضهم: يحنث؛ لأن اسم الهبة يتم بهذا القدر، وقال آخرون: لا حقيقة للهبة حتى يتصل بها القبض؛ لأن القبض هو الركن، وبه حصول المقصود، والألفاظ تعنى لمقاصدها.

وقد ذكر العراقيون الخلاف على وجه آخر، فقالوا: إذا حصلت الهبة والقبول، فالذي جرى هبة في حكم الحنث والبر، بلا خلاف، وإنما التردد فيه إذا قال الحالف وهبت، فهل نقول: يحصل الحنث بمجرد قول الواهب قبل القبول؟ قالوا المذهب أن هذا ليس بهبة، وحكَوْا عن ابن سريج وجهاً أنه إذا قال: لا أهب، ثم وهب، حصل الحنث، وإن لم يقبل المتهب، مصيراً إلى أن الإنسان قد يخبر عما جرى، ويقول: وهبت لفلان، فلم يقبل مني، ولا شك أنهم يطردون هذا الخلاف في البيع وغيره من العقود المشتملة على الإيجاب والقبول.

ولو قال: لا أهب، ثم أضاف الشخص المذكور، وقدم إليه الطعام؛ فإن لم يأكله، فلا حنث، وإن أكله، فهذا يخرج على أن الضيف هل يملك ما يأكله؟ إن قلنا: إنه لا يملكه، فالذي جرى ليس بهبة، وإن قلنا: إنه يملك، ففيه تردد واحتمال، من جهة حصول الملك من وجه، وبُعد ما جرى عن اسم الهبة من وجه، والوجهُ القطع بأن الحنث لا يحصل.

١١٨٢٤ - ولو كان المحلوف عليه التصدق مثل أن يقول: لا أتصدق، فلو وهب، ولم يقصد التصدق الذي يقع التقرب به، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يحنث؛ لأن الهبة لا تسمى صدقة، وإن كانت الصدقة تسمى هبة.

ومن أصحابنا من قال: يحنث بالهبة؛ فإنها تمليك من غير عوض، وهي في الاسم قريبة المأخذ بالإضافة إلى الصدقة، وهذا لا وجه له، والوجه ألا يحنث بالهبة إذا كان المحلوف عليه الصدقة. واختار القاضي التحنيث بالهبة مصيراً إلى أن الهبة لا تخلو عن ثواب كالصدقة، وهذا الاختيار لا يليق بمنصبه مع القطع بتحليل الهبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريم الصدقة عليه.