وقد نقول: إن الفقه كان أسبق كل هذه الفنون نضوجاً، فكان الإمام أبو حنيفة، وتلاميذه قد ملؤوا العراق علماً سارت به الركبان إلى الآفاق، وارتحل الناس إليه من كل فجّ، وفي المدينة كان مالك إمام دار الهجرة، قد علا ذكره، وانتشر علمه، وأخذ يُرسي قواعدَ منهج جديد، ومذهب يغاير مذهب أهل العراق، وأخذت الدنيا تموج بالعلم. في هذا الزمان جاء الشافعي.
وأما المكان، فقد اتسعت مساحته، وترامت أطرافه فيما بين فلسطين، ومكة المكرمة، ومضارب هُذيل بالبادية، والمدينة المنورة، واليمن، ثم بغداد، ثم مكة، ثم بغداد، ثم مكة، فبغداد، فمصر.
قدَّرتْ أمُّ الشافعي -كما تقول الروايات- أنها تنتقل بابنها الطفل القرشي المطلبي من غزة إلى مكة المكرمة، حفاظاً على نسبه الشريف، حيث ينشأ بين من يعرفه من قومه وعشيرته، ولكن الأقدار أرادت هذا الانتقال لأمرٍ أكبر، ولشأن أعظم، فقد نشأ هذا الطفل، فوجد حوله حلقات العلم تملأ الحرم الشريف: الفقهاء، والقراء، والمحدِّثون، والمفسرون.
ووجد نفسه بين عرب أَقْحاح، يعرفون للسان العربي مكانته، ويَرَوْن اللحنَ هُجنة تُزري بصاحبها، فدفعته نفسُه الأبية إلى أن يلحق بالبادية، يلازم هُذيلاً -من أفصح قبائل العرب- يظعن بظعنهم، ويقيم بإقامتهم، ويحفظ الأشعار، ويستوعب اللغة، ويقول هو عن ذلك:" خرجت عن مكة، فلازمت هذيلاً بالبادية، أتعلم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة، جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب، والأخبار " ا. هـ
طالت إقامته بالبادية حتى بلغت -في رواية عند ابن كثير- عشرَ سنوات، فاستقام لسانه، واستعصى على اللحن، حتى قال فيه معاصره ابنُ هشام صاحبُ السيرة:
" الشافعي تؤخذ منه اللغة "(١)، ويكفيك دليلاً على هذا أمران:
أ- أن الأصمعي -وهو مَنْ هو في مجال اللغة- يجلس بين يديه يُصحح عليه أشعار الهُذليين.
(١) ر. مقدمة الشيخ شاكر للرسالة ص ١٣، ١٤ ففيهما كلام مفيد في هذا المعنى، بل اقرأ المقدمة كاملة، ففيها من العلم ما لا يصح أن يفوتك.