للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليسجل في زهو تلك المفارقة العجيبة الرائعة التي تتجسد فيها أعظم العظات والعبر.

إن ما شهدته مكة في صباح ذلك اليوم التاريخي الأغر من مفارقات عجيبة رائعة إنما هو إحدى ثمار الثبات على العقيدة السليمة الدافعة كل شيء يعترض سبيلها حتى ولو كان الجبال الراسيات.

أية مفارقة أروع وأعظم مما كتبه التاريخ في ذلك اليوم الأغر، فلقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولسبع سنوات فقط أهون على قومه في مكة من أي شيء لديهم.

أجمعوا على قتله وهو بين ظهرانيهم بمكة وهم يعرفون كلهم أنه أبر وأشرف وأطهر وأنبل من عرفته بطحاؤهم.

قبل سبع سنوات فقط خرجت مكة كلها تبحث عنه في مطاردة جنونية مسعورة وكل فرد يمني بقتل هذا الرجل.

واليوم تذكر مكة ولا تنسى وهي تقف اليوم يرجف كبار مجرميها تحت رحمة عشرة آلاف محارب يقودهم هذا الرجل الذي أراد أهل مكة أن يجعلوا منه طريداً لا عودة له.

تذكر مكة ولا تنسى أن هذا الرجل إياه خرج منها وحيداً خائفاً يترقب، يترصده الموت من كل مكان.

وها هو اليوم يعود إلى مكة الحبيبة مرفوع الرأس وضاح الجبين، قد أحاطه الله بالعزة والمنعة وألبسه رداء السيادة ووضع في يده مقابض كل القيادة، قد أحاط به بحر يموج بآلاف الفرسان وآلاف المشاة من جنود الله كلهم يفديه وتحوطه ملائكة السماء.

وجبريلٌ رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاءُ

يستقبلهم اليوم أهل مكة في ذلة وانكسار وأيدي كبار مجرميها تتحسس رؤوسهم خوفاً من أن تفصلها عن كواهلهم سيوف الرجل الطريد بالأمس والفاتح العزيز المنتصر اليوم (١) .

ولا شيء عنده إلا العفو الشامل لنبي من أولي العزم صفت نفسه وطهرت. ودخل


(١) "فتح مكة" لبشاميل (١٧١-١٧٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>