وهكذا ضمنت هذه المعاهدة بقاء مركزٍ للدعوة الإسلامية في تلك البلاد النصرانية، ذلك أن المسجد هو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول عمل يقوم به الدعاة هو بناء المساجد ومن ثم تبدأ الدعوة منها، ولا زال المسجد يقوم بدور كبير في القارة الأفريقية حتى الآن، بمعنى أنه يؤدي وظيفته الحقيقية. وقد ظلَّ مسجد "دنقلة" الذي بناه المسلمون منذ سنة إحدى وثلاثين هجرية فترة زمنية طويلة يؤدي رسالته في الدعوة الإسلامية، ويؤمه الدعاة من مختلف أقطار العالم الإسلامي فيستقرون فيه أو حوله ويدعون الناس إلى الإسلام مما كان له عظيم الأثر في تحطم الوجود النصراني والقضاء عليه.
وفي الشرط الأخير من شروط المعاهدة تعهد النوبيون بدفع ثلاثمائة وستين رأساً من الرقيق إلى والي المسلمين، ولقد كانت النوبة منذ القدم تشتهر بتصدير هؤلاء الرقيق فرأى قائد المسلمين عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن يستأثر بهؤلاء الرقيق للدولة الإسلامية، فإذا سُلِّموا للمسلمين أصبحوا مماليك دولة لا رقيق: أفراد، وينتج عن ذلك عدد من النتائج:
فهؤلاء يتحولون إلى الإسلام وينقذون من الكفر والضْلال لأنهم في الأصل إما من النصارى أو الوثنيين، ولذلك فقد قال أحدهم لتاجر أوروبي لقيه في مصر: إننا في الحقيقة لا نأتي من الحرية للرق، بل إننا نأتي من الرق الحقيقي والعبودية للبشر لنصبح أحراراً بالإسلام، وقد كان لهؤلاء بعد إسلامهم شأن في الدولة الإسلامية فكان منهم الجند والوزراء بل والولاة أحيانا، وبعض هؤلاء يؤثر العودة إلى موطنه بعد إسلامه فيعود إليها داعياً للإسلام، وهكذا فلم يمض القرن الثامن الهجري حتى أصبحت بلاد النوبة كلها بلاداً إسلامية وأهلها قد اعتنقوا الإسلام، وذلك بطريقة سلمية جراء تأثير بنود هذه المعاهدة، وفي هذا ما يدحض تلك الفرية التي طالما ردَّدها الغربيون وتلامذتهم وهي أن الإسلام لا ينتشر إلا بالقوة والسيف.
رضي الله عن عبد الله بن أبي سرح الذي مهد الطريق لنشر الإسلام في تلك البقاع" (١) .
(١) "من معارك المسلمين في رمضان" للدكتور عبد العزيز بن راشد العبيدي (ص ٣٩-٤٢) - مكتبة العبيكان وانظر "فتوح البلدان" للبلاذري (ص ٣٣١) ، و"الخطط" للمقريزي (١/٢٠٠) ، و"فتوح مصر" لابن عبد الحكم (ص ١٨٨) .