وما خُذِلَ المسلمون وما هُزموا إلا بما قدمته أيديهم، ولذا كانت وصية خلفاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقادتهم هي اجتناب المعاصي والبعد عن الآثام لأنها سبب الهزائم.
وصلت الجيوش الإسلامية إلى أنطاكية، وأحاطت بها من كل جانب، وكان ذلك في يوم جمعة من أيام رمضان المبارك، فكان ذلك شرف زماني عظيم تُرَجَّى فيه إجابة الدعوات، وأرسل المسلمون للنصارى يطلبون منهم الاستسلام حفظاً لأرواحهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وفي يوم السبت زحفت العساكر الإسلامية وأطافت بالمدينة والقلعة على اتساعها، وقاتل أهلها قتالاً شديداً فتسوّر المسلمون الأسوار من جهة الجبل، ونزلوا المدينة فهرب أهلها إلى القلعة، وتسلم المسلمون المدينة، فقتلوا من قاتلهم، وأسروا الباقي، وكان في هذه المدينة مائة ألفٍ من الصليبيين من المحاربين.
وأما القلعة فقد اجتمع فيها ثمانية آلاف من المقاتلة الأشدّاء، غير أن المسلمين ضيَّقوا عليهم فطلبوا التسليم في يوم الأحد، على أن لا يقتلوا فاستجاب لهم المسلمون وصعد السلطان الظاهر بيبرس -رحمه الله تعالى- وتسلَّم القلعة وعفا عن كل من فيها.
وكُتِبَت كتب البشائر لأنحاء العالم الإسلامي بهذا النصر العظيم، والفتح الكبير وسقطت بذلك إمارة أنطاكية الصليبية، فكان ذلك إيذاناً بزوال الإمارات الصليبية كلها، وكان ملك أنطاكية خارجها فسلم لأجل ذلك، وأرسل له السلطان بيبرس كتاباً يخبره بهذا الفتح ويصف له الوقعة ويدعوه إلى الاستسلام وهذه مقتطفات منه:
"وفتحناها بالسيف من يوم السبت من رمضان، وقتلنا كل من اخترته لحفظها، والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا، فما بقي أحد منا إلا وعنده شيء منهم ومنها، فلو رأيت خيالتك وهم صراعى تحت أرجل الخيل، وديارك والنهابة فيها تصول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وإماءك فكل أربع منهن تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق لكنت تقول:(يا ليتني كنت ترابا)[النبأ: ٤٠] ، واستنزلنا أصحابك من الصياصي، وأخذناهم بالنَّواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي، ولم يبق شيء يطلق عليه اسم العصيان، إلا النهر فلو استطاع لما تسمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندماً"(١) .