للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم يخلق الإنسان ليقتّر عليه رزقه ولم يقذف به في هذا المجتمع ليموت فيه جوعاً، بل أرادت حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الأرض وتحت ظلال السماء ما يكفيه مؤونته، ويسد حاجته، ولكن سلبه الرحمة فبغى بعضه على بعض وغدر القوي بالضعيف واحتجن دونه رزقَه فتغير نظام القسمة العادلة وتشوه وجهها الجميل، ولو كان للرحمة سبيل إلى القلوب لما كان للشقاء إليها سبيل.

الفرد هو المجتمع وإنما يتعدد بتعدد الصور، أتدري متى يكون الإنسان إنساناً؟ متى عرف هذه الحقيقة حق المعرفة وأشعرها نفسَ فخفق قلبه لخفقان القلوب وسكن لسكونها، فإذا انقطع ذلك السلك الكهربائي بينه وبينها انفرد عنها واستوحش من نفسه، وإذا كان الأنس مأخذَ الإنسان المجتمع، فالوحشة مأخذ الوحش المنقطع.

وجِماع القول أنه لا يمكن أن تجتمع رحمة الرحماء وشقوة الأشقياء في مكان واحد إلا إذا أمكن أن يجتمع في بقعة واحدة الملَك الرحيم، والشيطان الرجيم.

إن من الناس من تكون عنده المعونة الصالحة للبر والإحسان فلا يفعل، فإذا مشى مشى متدفعاً مندلثاً (١) لا يلوي على شيء مما حوله من المناظر المؤثرة المحزنة، وإذا وقع نظره على بائس لا يكون نصيبه منه إلا الإغراق في الضحك سخرية به وببذاذة ثوبه ودمامة خلقه، وإن من الناس من إذا عاشر الناس عاشرهم ليعرف كيف يحتلب دِرتهم (٢) ويمتص دماءهم، ولا يعاملهم إلا كما يعامل شويهاته وبقراته، لا يقربها ولا يُطعمها ولا يَسقيها إلا لما يترقب من الربح في الاتجار بألبانها وأصوافها، ولو استطاع أن يهدم بيتاً ليربح حجراً لفعل، وإن من الناس من لا حديث له إلا الدينار وأين مستقره وكيف الطريق إليه وما السبيل إلى حبسه والوقوفِ في وجهه والحيطة لفراره، ويبيت ليله حزيناً كئيباً لأن خزانته ينقصها درهم كان يتخيل في يقظته أو يرى في منامه أنه سيأتيه فلم يُقيض له، وإن من الناس من يؤذي الناس لا يجلب بذلك لنفسه منفعة أو يدفع عنها مضرة بل لأنه شرير يدفعه طبعه إلى ما لا يعرف وجهه أو ليضرّي (٣) نفسه بالأذى مخافة أن ينساه عند الحاجة


(١) اندلث في الأمر: اندفع فيه.
(٢) الدرة: اللبن إذا كثر وسال.
(٣) يقال: أضرى فلان كلبه بالصيد وضرّاه إذا أغراه به وعوّده متابعته.

<<  <  ج: ص:  >  >>