الجهة الأولى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة، ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر، كما ذكر العوض في زكاة الإبل وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أْشفق وأرحم بالمساكين من كل إنسان (١) .
الجهة الثانية: وهي القاعدة العامة أنه لاينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان هو باطل -كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم: إن الأشنان يجزيء عن التراب في الولوغ- أي: لأنه ليس من جنسه فيسقط العمل به.
وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة، فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال فيبطل.
ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلاً بمثل ففي القول بالقيمة جزء الناس على ما هو أعظم، وهو القول بالقيمة في الهدي، ولم يقل به أحد من العلماء، علمًا بان الأحناف أنفسهم لا يجيزون القيمة في الهدي؛ لأن الهدي فيه جانب تعبد وهو النسك.
(٩) ويمكن أن يقال لهم أيضاً: إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد طهرة الصائم وطعمة للمساكين، كما أن عملية شرائها ومكيلها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة، أما تقديمها نقدم فلا يكون فيه فرق عن أي صدقة. من الصدقات من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام، فإخراج القيمة يخرج الفطرة "زكاة
(١) إذ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، وإلى هذه القاعدة المقررة يشير ابن حزم في كثير من استدلاته بقوله تعالى: (وما كان ربك نسيا) وذلك لأنه إذا كان الله لا ينسى- وتنزه ربنا عن النسيان وعن كل نقص- فسكوته سبحانه أو سكوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبلغ عنه في معرض البيان لشيء من أفعال الكلفين عن شيء آخر يشبهه أو يجانسه، لا يكون نسيانا أو ذهولاً -تعالى الله عن ذلك- ولكنه يفيد قصر الحكم عن ذلك الشئ المبين حكمه، ويكون ما عداه وهو المسكوت عنه مخالفًا له في الحكم، فإن كان المنصوص عليه بالبيان فمأذونًا فيه كان المسكوت عنه ممنوعًا، وان كان العكس فالعكس، وهو معنى قولهم: السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وهي قاعدة عظيمة بنى عليها العلماء كثيرًا من الأحكام.