للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ» .

وَمِنْ جُمْلَةِ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْعَشْرِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيَّامِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ قَوْلُهُ: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يَدُلُّ عَلَى تَقْرِيرِ أَفْضَلِيَّةِ الْجِهَادِ عِنْدَهُمْ، وَكَأَنَّهُمْ اسْتَفَادُوهُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فَقَالَ: " لَا أَجِدُهُ " كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُهُ: (إلَّا رَجُلٌ) هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ إلَّا عَمَلَ رَجُلٍ قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ فَيَكُونُ أَفْضَلُ مِنْ الْعَامِلِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَنْ لَا يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ رَجَعَ هُوَ، وَأَنْ لَا يَرْجِعَ هُوَ وَلَا مَالُهُ بِأَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ. وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: " لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ " يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَرْجِعَ بِنَفْسِهِ وَلَا بُدَّ. انْتَهَى.

قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ تَعْقِيبٌ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَتَعُمَّ مَا ذَكَرَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ وَغُنْدَرٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ: " فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْيَ الرُّجُوعِ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ الرُّجُوعِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ كَمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ انْتَهَى.

وَمَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى تَوْجِيهِ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ إلَى الْقَيْدِ فَقَطْ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُنْتَفِيَ دُونَ الرُّجُوعِ الَّذِي هُوَ الْمُقَيَّدُ أَوْ تَوْجِيهِهِ إلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ فَيَنْتَفِيَانِ مَعًا. وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي مَا عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَوَانَةَ بِلَفْظِ: «إلَّا مِنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «إلَّا مَنْ لَا يَرْجِعْ بِنَفْسِهِ وَلَا مَالِهِ» وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «إلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجْهَهُ التُّرَابُ» . وَالْحَدِيثُ فِيهِ تَفْضِيلُ أَيَّامِ الْعَشْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ السَّنَةِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِيمَنْ نَذَرَ صِيَامَ أَفْضَلِ الْأَيَّامِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ إجْمَاعُ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهَا: الْحَجُّ، وَالصَّدَقَةُ، وَالصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَخْتَصُّ الْفَضْلُ بِالْحَاجِّ أَوْ يَعُمُّ الْمُقِيمَ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِالْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: التَّكْبِيرُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ.

وَثَبَتَ تَحْرِيمُ صَوْمِهَا، وَوَرَدَ فِيهَا إبَاحَةُ اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى تَفْرِيغِهَا لِذَلِكَ مَعَ الْحَضِّ عَلَى الذِّكْرِ، وَالْمَشْرُوعُ مِنْهُ فِيهَا التَّكْبِيرُ فَقَطْ.

وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بِأَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ: الْعِبَادَةُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي اسْتِيفَاءَ حَظِّ النَّفْسِ مِنْ الْأَكْلِ وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَغْرِقُ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَنْحَصِرُ فِي التَّكْبِيرِ، بَلْ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ مِنْهُ أَنَّهُ الْمَنَاسِكُ مِنْ الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ الَّذِي يَجْتَمِعُ مَعَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. انْتَهَى.

وَاَلَّذِي يَجْتَمِعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>