وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ) .
١٤٤ - (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ:
ــ
[نيل الأوطار]
وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ) . الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ مِنْ أَحْسَنِ الصِّبَاغَاتِ الَّتِي يُغَيَّرُ بِهَا الشَّيْبُ، وَأَنَّ الصَّبْغَ غَيْرَ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا لِدَلَالَةِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ عَلَى مُشَارَكَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ الصِّبَاغَاتِ لِهُمَا فِي أَصْلِ الْحُسْنِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَيَحْتَمِلُ الْجَمْعَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: (اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا) أَيْ مُنْفَرِدًا وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا دَائِمًا، وَالْكَتَمُ نَبَاتٌ بِالْيَمَنِ يُخْرِجُ الصَّبْغَ أَسْوَدُ يَمِيلُ إلَى الْحُمْرَةِ وَصَبْغُ الْحِنَّاءِ أَحْمَرُ فَالصَّبْغُ بِهِمَا مَعًا يَخْرُجُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ، وَقَدْ اسْتَنْبَطَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ قَوْلِهِ: (جَنِّبُوهُ السَّوَادَ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي شَرْعِيَّةِ الصِّبَاغِ وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ هِيَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَبِهَذَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الْخِضَابِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَالِغُ فِي مُخَالِفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَأْمُرُ بِهَا وَهَذِهِ السُّنَّةُ قَدْ كَثُرَ اشْتِغَالُ السَّلَفِ بِهَا، وَلِهَذَا تَرَى الْمُؤَرِّخِينَ فِي التَّرَاجِمِ لِهُمْ يَقُولُونَ: وَكَانَ يَخْضِبُ وَكَانَ لَا يَخْضِبُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَدْ اخْتَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَدْ رَأَى رَجُلًا قَدْ خَضَّبَ لِحْيَتَهُ: إنِّي لَأَرَى رَجُلًا يُحْيِي مَيِّتًا مِنْ السُّنَّةِ، وَفَرِحَ بِهِ حِينَ رَآهُ صَبَغَ بِهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ خِضَابِ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ، وَيُحَرِّمُ خِضَابَهُ بِالسَّوَادِ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ وَلِلْخِضَابِ فَائِدَتَانِ: إحْدَاهُمَا: تَنْظِيفُ الشَّعْرِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ: مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ أَيْ فِي الْخَضْبِ بِالسَّوَادِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَجَرِيرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْخِضَابِ.
وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ «يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ بِالسَّوَادِ لَا يَجِدُونَ رِيحَ الْجَنَّةِ» بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ بَلْ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ قَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُمْ. وَعَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: (جَنِّبُوهُ السَّوَادَ) بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ «مِنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ الْحَافِظُ: وَسَنَدُهُ لَيِّنٌ، وَيُمْكِنُ تَعَقُّبُ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَالَ: تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعَلِيَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ الْقَوْمَ الْمَذْكُورِينَ بِأَنَّهُمْ يَخْضِبُونَ بِالسَّوَادِ، وَيُمْكِنُ تَعَقُّبُ الْجَوَابِ الثَّانِي بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ عَلَى الْوَاحِدِ لَيْسَ حُكْمًا عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute