. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[نيل الأوطار]
وَسَيَأْتِي لِكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَأْوِيلٌ آخَرُ قَوْلُهُ: (مَا عَلِمْتُ. . . إلَخْ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ لِلصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَسْنَدَ ذَلِكَ إلَى عِلْمِهِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَرُدُّ عِلْمَ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ عَلَى الْإِطْلَاقِ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ، وَصَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً، وَظَاهِرُهُ أَنَّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ) فِيهِ تَعْيِينُ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَمْرُ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ، وَهُوَ أَوَّلُ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، وَلَا شَكَّ بِأَنَّ قُدُومَهُ كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ كَانَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعْ الْأَمْرُ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ إلَّا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ فُوِّضَ الْأَمْرُ فِي صَوْمِهِ إلَى الْمُتَطَوِّعِ قَوْلُهُ: (مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ) هَذَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِبَقَاءِ فَرْضِيَّةِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْآنَ بِفَرْضٍ، وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ قَصْدَهُ بِالصَّوْمِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي بَابِ الصَّبِيِّ يَصُومُ إذَا أَطَاقَ قَوْلُهُ: (إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَ. . . إلَخْ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إنَّهَا كَانَتْ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَأَمَّا صِيَامُ قُرَيْشٍ لِعَاشُورَاءَ فَلَعَلَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنْ الشَّرْعِ السَّالِفِ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ بِكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْحَافِظُ: ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ مِنْ مَجَالِسِ الْبَاغَنْدِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَذْنَبَتْ قُرَيْشٌ ذَنْبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَظُمَ فِي صُدُورِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: صُومُوا عَاشُورَاءَ يُكَفِّرْ ذَلِكَ انْتَهَى قَوْلُهُ: (فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ عَاشُورَاءَ) فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " فَوَجَدَ الْيَهُودَ صُيَّامًا " وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ ظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ صُيَّامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَإِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَوَّلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَسُؤَالِهِ عَنْهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَوْ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرُهُ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ فَأَقَامَ إلَى يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ فِيهِ صُيَّامًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ كَانُوا يَحْسِبُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِحِسَابِ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ، فَصَادَفَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ بِحِسَابِهِمْ الْيَوْمَ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ: (فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) قَدْ اُسْتُشْكِلَ رُجُوعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ. وَأَجَابَ الْمَازِرِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ أَوْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، أَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَابْنِ سَلَامٍ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْأَمْرَ بِصِيَامِهِ، بَلْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَغَايَةُ مَا فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُودِ تَجْدِيدُ حُكْمٍ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَ كَمَا تَقَدَّمَ، إذْ لَا مَانِعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute