للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

الْفِعْلَ مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّلِ مَعَ ذَلِكَ الْقَائِلِ بَعْدَ فَرْضِ أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَالِفُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ فَلَا اخْتِصَاصَ وَيَشْهَدُ لِمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ إجْمَاعُهُمْ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا عُلِّلَ بِهِ النَّهْيُ؛ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ، وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ، اسْتَفْهَمَهُ عَنْ سَبَبِ النَّهْيِ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ إذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ وَتَأَخَّرَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَكَأَنَّهُ بَاعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا سَأَلَهُ طَاوُسٌ: أَلَا تَرَاهُمْ يَبْتَاعُونَ بِالذَّهَبِ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى طَعَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَدَفَعَهَا لِلْبَائِعِ، وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الطَّعَامَ، ثُمَّ بَاعَ الطَّعَامَ إلَى آخَرَ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَثَلًا، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بِذَهَبِهِ ذَهَبًا أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَجْوَدُ مَا عُلِّلَ بِهِ النَّهْيُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَعْرَفُ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ كُلّ تَصَرُّفٍ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا كَانَ بِعِوَضٍ وَمَا لَا عِوَضَ فِيهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إلَّا الْإِلْحَاقُ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ عَرَفْتَ بُطْلَانَ إلْحَاقِ مَا لَا عِوَضَ فِيهِ بِمَا فِيهِ عِوَضٌ، وَمُجَرَّدُ صِدْقِ اسْمِ التَّصَرُّفِ عَلَى الْجَمِيعِ لَا يَجْعَلُهُ مُسَوِّغًا لِلْقِيَاسِ عَارِفٌ بِعِلْمِ الْأُصُولِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقَبْضِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَحْوِيلِهِ إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ الْمُشْتَرِي أَوْ يَضَعُ فِيهِ بِضَاعَتَهُ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: حَتَّى يُحَوِّلُوهُ وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: «كُنَّا نَبْتَاعُ الطَّعَامَ، فَبَعَثَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ إلَى مَكَان سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ» وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْفَتْحِ: إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْإِيوَاءُ إلَى الرِّحَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى تَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ؛ لِأَنَّهُ مُخَالَفَةٌ لِمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا عُذْرَ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ.

قَوْلُهُ: (جِزَافًا) بِتَثْلِيثِ الْجِيمِ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ مِنْ غَيْرِهِ: وَهُوَ مَا لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ بَيْعُ الصُّبْرَةِ جِزَافًا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إذَا جَهِلَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي قَدْرَهَا قَوْلُهُ: (وَلَا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مِثْلَهُ) اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقِيَاسَ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ الْمُقْتَضِي لِكَوْنِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ كَالطَّعَامِ كَمَا سَلَفَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَكْتَالَهُ) قِيلَ: الْمُرَادُ بِالِاكْتِيَالِ الْقَبْضُ وَالِاسْتِيفَاءُ كَمَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ فِي الطَّعَامِ ذَلِكَ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْكَيْلِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ كَمَا عَرَفْتَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً فَلَا يَكُونُ قَبْضُهُ إلَّا بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، فَإِنْ قَبَضَهُ جِزَافًا كَانَ فَاسِدًا، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ كَمَا حَكَاهُ الْحَافِظُ عَنْهُمْ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>