للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: ٢٨٢] قَالُوا: وَلَوْ ثَبَتَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لَكَانَتْ الْآيَةُ غَيْرَ مُفِيدَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنْ وَقَعَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَمْ يُطَابِقْ الْأَمْرَ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وقَوْله تَعَالَى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: ٢٩] فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الرِّضَا يَتِمُّ الْبَيْعُ، وقَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] لِأَنَّ الرَّاجِعَ عَنْ مُوجِبِ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَفِ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وَالْخِيَارُ بَعْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ.

وَمِنْهُ حَدِيثُ التَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِاقْتِضَائِهِ الْحَاجَةَ إلَى الْيَمِينِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ الْعَقْدِ، وَلَوْ ثَبَتَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لَكَانَ كَافِيًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ عَلَى فَرْضِ شُمُولِهَا لِمَحَلِّ النِّزَاعِ أَعَمُّ مُطْلَقًا، فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَالْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَمِنْ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي مَنْ أَجَابَ عَنْ أَحَادِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مَهْمَا أَمْكَنَ لَا يُصَارُ مَعَهُ إلَى التَّرْجِيحِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِغَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا تَكَلُّفٍ انْتَهَى، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فِي إلْحَاقِ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُصَادَمَتِهِ النَّصَّ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ تَحْسِينًا لِلْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُسْلِمِ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِدَلِيلٍ، وَهَكَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُحْمَلُ التَّفَرُّقُ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الْأَقْوَالِ كَمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْإِجَارَةِ قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ ظُهُورِ الْفَارِقِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْقُلُ مِنْهُ مِلْكَ رَقَبَةِ الْمَبِيعِ وَمَنْفَعَتِهِ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُتَبَايِعِينَ الْمُتَسَاوِمَانِ قِيلَ فِي الْفَتْحِ: وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَجَازٌ فَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا أَوْلَى، وَقَدْ احْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ وَأَحَادِيثَ اُسْتُعْمِلَ فِيهَا الْمَجَازُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِي مَوَاضِعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَمَنْ نَفَى خِيَارَ الْمَجْلِسِ ارْتَكَبَ مَجَازَيْنِ لِحَمْلِهِ التَّفَرُّقَ عَلَى الْأَقْوَالِ وَحَمْلِهِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ، وَأَيْضًا فَكَلَامُ الشَّارِعِ يُصَانُ عَنْ الْحَمْلِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُهُ أَنَّ الْمُتَسَاوِمَيْنِ إنْ شَاءَا عَقَدَا الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَا لَمْ يَعْقِدَاهُ، وَهُوَ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ ذَلِكَ. وَلِأَهْلِ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَجْوِبَةٌ غَيْرُ هَذِهِ فَمِنْهَا مَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ، وَمِنْهَا غَيْرُهُ وَقَدْ بَسَطَهَا صَاحِبُ الْفَتْحِ، وَأَجَابَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا مَا كَانَ يَحْتَاجُ مِنْهَا إلَى الْجَوَابِ، وَتَرَكْنَا مَا كَانَ سَاقِطًا فَمَنْ أَحَبَّ الِاسْتِيفَاءَ فَلْيَرْجِعْ إلَى الْمُطَوَّلَاتِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَرُّقِ تَفَرُّقُ الْأَبْدَانِ هَلْ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالْمَشْهُورُ الرَّاجِحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى الْعُرْفِ فَكُلّ مَا عُدَّ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>