بَابُ مَا جَاءَ فِي الشُّبُهَاتِ
ــ
[نيل الأوطار]
وَخَمْسِمِائَةِ إنَّمَا نَوَى بِالْإِقْرَاضِ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ الزَّائِدِ الَّذِي أَظْهَرَ أَنَّهُ ثَمَنُ الثَّوْبِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْطَاهُ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، وَجَعَلَ صُورَةَ الْقَرْضِ وَصُورَةَ الْبَيْعِ مُحَلِّلًا لِهَذَا الْمُحَرَّمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ وَلَا يَرْفَعُ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي حُرِّمَ الرِّبَا لِأَجْلِهَا بَلْ يَزِيدُهَا قُوَّةً وَتَأْكِيدًا مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ: مِنْهَا: أَنَّهُ يُقْدِمُ عَلَى مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ الْمُحْتَاجِ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ وَالْحُكَّامِ إقْدَامًا لَا يَفْعَلُهُ الْمُرْبِي؛ لِأَنَّهُ وَاثِقٌ بِصُورَةِ الْعَقْدِ الَّذِي تَحَيَّلَ بِهِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ
قَوْلُهُ: (وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ) الْمُرَادُ الِاشْتِغَالُ بِالْحَرْثِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ» وَقَدْ حُمِلَ هَذَا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالزَّرْعِ فِي زَمَنٍ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْجِهَادُ. قَوْلُهُ: (وَتَرَكُوا الْجِهَادَ) أَيْ: الْمُتَعَيَّنَ فِعْلُهُ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقَبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ بَيْنَهُمْ، فَصَاحَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ؟ فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ لَتُؤَوِّلُونَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا. لِبَعْضٍ سِرًّا: إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا وَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نُبَيْهِ مَا يَرُدُّ عَلَيْنَا فَقَالَ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ: الْأَمْوَالَ وَإِصْلَاحَهَا وَتَرْكَ الْغَزْوِ.
قَوْلُهُ: (ذُلًّا) بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ: صَغَارًا وَمَسْكَنَةً، وَمِنْ أَنْوَاعِ الذُّلِّ: الْخَرَاجُ الَّذِي يُسَلِّمُونَهُ كُلَّ سَنَةٍ لِمُلَّاكِ الْأَرْضِ. وَسَبَبُ هَذَا الذُّلِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِي فِيهِ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارُهُ عَلَى كُلِّ دِينٍ عَامَلَهُمْ اللَّهُ بِنَقِيضِهِ، وَهُوَ إنْزَالُ الذِّلَّةِ فَصَارُوا يَمْشُونَ خَلْفَ أَذْنَابِ الْبَقَرِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَرْكَبُونَ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ الَّتِي هِيَ أَعَزُّ مَكَان. قَوْلُهُ: (حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ) فِيهِ زَجْرٌ بَلِيغٌ؛ لِأَنَّهُ نَزَّلَ الْوُقُوعَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَنْزِلَةَ الْخُرُوجِ مِنْ الدِّينِ وَبِذَلِكَ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ الْعِينَةِ، وَقِيلَ: إنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ غَيْرُ وَاضِحَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ الْعِينَةَ بِالْأَخْذِ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ وَالِاشْتِغَالِ بِالزَّرْعِ - وَذَلِكَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ - وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالذُّلِّ وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَلَكِنَّهُ لَا يَخْفَى مَا فِي دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ مِنْ الضَّعْفِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّوَعُّدَ بِالذُّلِّ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ أَسْبَابِ الْعِزَّةِ الدِّينِيَّةِ وَتَجَنُّبَ أَسْبَابِ الذِّلَّةِ الْمُنَافِيَةِ لِلدِّينِ وَاجِبَانِ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَقَدْ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ بِإِنْزَالِ الْبَلَاءِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا لِذَنْبٍ شَدِيدٍ، وَجَعَلَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجِ مِنْ الدِّينِ الْمُرْتَدِّ عَلَى عَقِبِهِ، وَصَرَّحَتْ عَائِشَةُ بِأَنَّهُ مِنْ الْمُحْبِطَاتِ لِلْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّالِفِ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ شَأْنُ الْكَبَائِرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute