للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

لَا يَمْضِي عَلَيْهِ زَمَانٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اغْتِفَارِ الزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَكَأَنَّ الثَّلَاثَ غَايَةُ التَّأْخِيرِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَمْ أَبَتْ لَيْلَةً مُنْذُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا وَوَصِيَّتِي عِنْدِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي تَخْصِيصِ اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ بِالذِّكْرِ تَسَامُحٌ فِي إرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ: أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيتَ زَمَنًا مَا وَقَدْ سَامَحْنَاهُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يُنْدَبُ أَنْ يَكْتُبَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمُحَقَّرَةِ، وَلَا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ عَنْ قُرْبٍ وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: ١٨٠] الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ فِي آخَرِينَ، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَدَاوُد وَأَبُو عَوَانَةَ الْإسْفَرايِينِيّ وَابْنُ جَرِيرٍ.

قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَآخَرُونَ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَنَسَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ إلَى الْإِجْمَاعِ وَهِيَ مُجَازَفَةٌ لِمَا عَرَفْتَ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ السُّدُسَ " وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ بِأَنَّ الَّذِي نُسِخَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدِينَ وَالْأَقَارِبِ الَّذِينَ يَرِثُونَ وَأَمَّا مَنْ لَا يَرِثُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي النَّسْخَ فِي حَقِّهِ وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: " مَا حَقُّ. . . إلَخْ " لِلْجَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وَصِيَّةٍ.

وَقِيلَ: الْحَقُّ لُغَةً: الشَّيْءُ الثَّابِتُ، وَيُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ قَلِيلًا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَأَيْضًا تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَى إرَادَةِ الْمُوصِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَلَكِنَّهُ يَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِلَفْظِ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ» وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ رَاوِيَهَا ذَكَرَهَا بِالْمَعْنَى وَأَرَادَ بِنَفْيِ الْحِلِّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: تَجِبُ الْوَصِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَقَتَادَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي آخَرِينَ: تَجِبُ لِلْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ خَاصَّةً وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ فِي الْآيَةِ.

وَالْحَدِيثُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ يَخْشَى أَنْ يَضِيعَ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ لَمْ يُوصِ بِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: " لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ " قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٌ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ بِعَيْنِهِ الْخُرُوجُ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلْغَيْرِ سَوَاءٌ كَانَ بِتَنْجِيزٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَمَحِلُّ الْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَنْجِيزِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَثْبُتُ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِ.

فَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا أَوْ عَلِمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>